في سيدي منصور (صفاقس) صديقي الشّاعر محمّد البقلوطي لم يرافقني إلى مقهى البرّاكة الدّاخل في البحر، لعلّه آثر مواصلة الرّحلة وحده لماذا تركتني يا صاحبي عند ذلك المقهى وذهبت ملتحفا في البياض إلى الأقاصي؟
بقلم : سُوف عبيد
السّياقة في مدينة صفاقس عمليّة لا تُحسن عواقبُها بالنسبة للسّواق المارّين منها فالمدينة كثيرة التقاطعات ومزدحمة بالمترجّلين بالإضافة إلى حركة الدّراجات النّارية التّي يمكن أن تحاذيك وأن تقفز أمامك من حيث لا تدري ولا تحسب لحركتها البهلوانيّة على الطريق أيّ حساب وصحيح أنّ أصحابها ماهرون في صولاتهم وجولاتهم في الطرقات ولكنّ ذلك قد يكلّفني ما لا طاقة لي به لذلك اِخترت أن أترك سيَارتي نَؤُومَ الضحى في مَربضها الأمين وأن أستقلّ أوَل تاكسي تقودني سالما مطمئنا إلى شاطئ سيدي منصور.
في أواسط الخريف يكون الاِعتدال في الطقس متعة رائقة فلا الشّمس تلهب بسياطها ولا البرد ينخُر المفاصل، إلاّ النّسيم يخفق في الأفق وديعا مُنسابا حتّى لا يكاد يحرّك أشرعة الفلائك التي تبدو راسية أو تكاد على السّاحل…
شكرا سيَدي … هنا.
و نزلتُ من التاكسي وحدي فقد تركتُ فيها صديقي الشّاعر محمّد البقلوطي الذي لم يرافقني هذه المرّة إلى مقهى البرّاكة الدّاخل في البحر، لعلّه آثر مواصلة الرّحلة وحده لماذا تركتني يا صاحبي عند ذلك المقهى وذهبت ملتحفا في البياض إلى الأقاصي؟ و مثلما جلسنا فيه منذ عشر سنوات عند ضحى يوم جميل ها أنني أعود إليه وأجلس عند الركن الأيمن والشمس تنقر بأناملها البيضاء زجاج الكأس وتضع فيه قطعة واحدة من السّكر لعلَها هذه المرّة صارت حفنة من الملح.
لماذا تركتني أعود وحدي ونحن اللّذيْن تواعدنا على المجيء معا إلى شاطئ سيدي منصور قبل عشر سنوات لنجلس ساعة أو ساعتين في الليل كنّا نريد أن نجلس بين البحر وهو يتخلّل الواح المقهى من تحتنا و بين خيوط القمر وهي تنسج من حولها هالة الصفاء و البهجة…
معذرة يا صديقي أن تخلّفت كلّ هذه السنوات العشر ولم أجى إلى موعدنا الجميل بالرغم أنّني مررت بصفاقس عديد المرّات و في كلّ مرّة ينتابني الحنين إلى جلستنا البحريّة بموجها الر
ّقيق و بنسيمها الحريريّ وبزوارقها الحالمة على الأزرق وبالأطفال الباحثين عن المَحّار يأخذونه بعد جمعه إلى السّوق كما كنتَ قد فعلتَ أنت ذات يوم عندما كان البحر أجمل و الزمن أرحب بالمرح والفرح رغم شظف العيش في سنوات اليُتم…
ها أنني يا صديقي أعود وحدي غير أنّ ذكرى ذلك اليوم ما تزال عالقة كأنك الآن وهناك معي حول الطاولة في هذا المقهى الرائع حيث الس
ّكينة والهدوء رغم اِنبجاس الماء وهو يتخلّل الأخشاب ورغم حركة انسياب النسيم حولنا يزيدان الجلسة حميميّة بالتداخل مع العناصر هي في حركتها الأليفة أحيانا نحن في حاجة إلى الإختلاء بذواتنا بعيدا عن صخب المدن و ثرثرة النّاس و مواثيق الحياة…
هذا المكان يُتيح للمرء أن يتوغل قليلا في مجالات طالما أحسّ بفقدانها رغم كلّ أثاث الدنيا الذي يملا عليه تفاصيل أيامه.
و عند مغادرة المقهى البحريّ بشاطئ سيدي منصور وجدت نفس التاكسي في آنتظاري وكان محمّد البقلوطي داخلها… لم أصدّق الأمر ففتحت عينيّ مليا فرأيته من خلال النافذة يعود إلى الموج وحيدا…
شارك رأيك