إزاء الصعوبات في تطبيق قانون 2015 لمقاومة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب والمؤاخذات التي سجلها تقرير مجموعة العمل المالي (Gafi) تم الشروع في تنقيح هذا القانون حيث ينتظر عرضه في الأيام القادمة على الجلسة العامة لمجلس النواب للتصويت النهائي بعد أن اختتمت لجنة التشريع العام أعمالها حول التنقيحات المطلوبة بجلسات مطولة مع الأطراف المعنية.
بقلم فوزي العبيدي
مثّل الحديث عن إنتشار ظاهرة غسيل الأموال بالبلاد التونسية في السنوات الأخيرة جدلا واسعا وهي بالأساس ظاهرة ناتجة عن حالات الفوضى السياسية والفوضى الاقتصادية التي عقبت أحداث سنة 2011 والإطاحة بالنظام السابق، خاصة مع إمتداد الشبكات المحلية إلى شبكات دولية وإستعمالها لأموال قذرة في عمليات مالية مشبوهة قد يفاقم أزمات البلاد الاقتصادية والمالية إذالم يتم التصدي لها بحزم.
فقد كشف تقرير التقييم الوطني لمخاطر”غسل الأموال وتمويل الإرهاب” الذي أنجزته اللجنة التونسية للتحاليل المالية بتكليف من رئاسة الحكومة بالتعاون مع وزارتي الداخلية والعدل، أنّ مستوى هذه المخاطر في تونس “مرتفع نسبيا” وذلك وفق قائمة تهديدات تصدّرها الفساد والتهرب الديواني والتهرب الضريبي والجرائم الرقمية كقرصنة الحسابات المالية والبطاقات البنكية التي تشكل عائداتها المالية مخاطر عليا على القطاع المالي والاقتصادي على مستوى غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وقد عاد الجدل بخصوص هذه الظاهرة بعد قيام اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب مؤخرا بقرارات تجميد أموال وموارد اقتصادية تشمل 40 شخصا طبيعيا والتنظيم الإرهابي أجناد الخلافة حيث تم اصدار هذه القرارات في الرائد الرسمي وتضمينها في تحيين القائمة الوطنية للأفراد والتنظيمات والكيانات المرتبطة بالإرهاب.
تعريف جريمة غسل الأموال
عند الحديث عن جريمة غسل الأموال يجب تناول الظاهرة بداية من مصادر الأموال القذرة وغير المشروعة وهي متأتية من عديد القطاعات: المخدرات زراعةً وترويجا، تهريب البشر و الهجرة غير الشرعية، التجارة الموازية، الفساد والعمولات الخفية المتأتية من استغلال المناصب، ومن التزوير في النقود ومن المعاملات الوهمية.
بعد الحصول على الأموال الطائلة التي تدرها هذه الأنشطة غير الشرعية تكون هذه الجماعات مهتمة بضرورة إعادة إستغلالها وتوظيفها لهذه الأموال، فتكون في العقود السابقة بأساليب تقليدية سهلة نوعا ما إما بإيداعها في أحد المصارف أو المؤسسات المالية أو عن طريق تحويل هذه النقود إلى عملات أجنبية بالسوق الموازية للصرف، أو عن طريق شراء سيارات فارهة ويخوت وعقارات مرتفعة الثمن يسهل بيعها والتصرف فيها بعد ذلك.
لكن هذه الطرق أصبحت غير مرغوبة وغير متبعة لأنها سهلة التتبع من قبل مؤسسات الرقابة، خاصة أنها تتضمن في العادة كميات كبيرة جداً من الأموال السائلة، حيث أن التعرف على من قام بعملية الإيداع لهذه الأموال ليس بالأمر العسير ومن ثم علاقته بمصدر هذه الأموال.
لذلك أصبح القائمون على عمليات غسل وتبييض الأموال يعتمدون طرق تمويه معقدة تعتمد أساسا على مجموعة معقدة من العمليات المصرفية والتي تتخذ نمط العمليات المصرفية المشروعة ، والهدف من هذه المراحل جعل تتبع مصدر تلك الأموال غير المشروعة أمراً صعباً خاصة بتكرار عملية تحويل تلك الأموال من بنك إلى آخر والتحويل الإلكتروني للأموال، ويزيد من حالة التعقيد في تتبع تلك الأموال تحويلها إلى بنوك تتبنى قواعد صارمة من سرية الإيداعات في بلاد أخرى، وهي ما يطلق عليها بالملاذات المصرفية الآمنة كالبنوك الموجودة في لوكسمبورغ، و سويسرا، و بنما، وتتسم هذه الملاذات بتساهل قوانينها والتي جعلت أساسا لهذه الأغراض غير الشرعية، وجودة وسائل النقل من طائرات وسفن وسهولة تأسيس الشركات.
المرحلة الختامية في غسل الأموال تكون بإضفاء طابع الشرعية على الأموال، ومن خلال هذه المرحلة يتم دمج الأموال المغسولة في الدورة الإقتصادية والنظام المصرفي، لكي تبدو وكأنها عوائد أو مكتسبات طبيعية لصفقات تجارية مثل الشركات الوهمية، القروض المصطنعة والفواتير الوهمية في مجال الاستيراد والتصدير. وعند الوصول لهذه المرحلة يكون من الصعب جداً التمييز بين تلك الأموال غير المشروعة والأموال المشروعة، ليتم إستعمالها إما سياسيا لحفظ مصالح هذه الجماعات عن طريق اللوبيات السياسية أو في تمويل الإرهاب والتجارة الموازية.
قانون سنة 2015 دون المأمول
شهدت المنظومة القانونية لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال مراجعة عميقة سنة 2015 بصدور القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 7 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.
من خلال هذا القانون البديل للقانون عدد 75 لسنة 2003 المتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، حاول القائمون عليه تحديد بدقة نطاق التجريم من خلال تعريف الجرائم الإرهابية بطريقة تستجيب لمقتضيات الردع وتنسجم مع المواثيق الدولية وتكفل المطابقة مع معايير التعاون الدولي في التصدي للظاهرة الإجرامية الإرهابية.
لكن بعد مرور أكثر من ثلاثة سنوات على بداية تطبيق هذا القانون ظهرت العديد من الثغرات صلبه خاصة في تتبع العمليات المعقدة لهذه الظاهرة وضبابية بعض التعريفات كما أفرز تطبيقه عديد الإشكاليات والصعوبات العملية سواءا على مستوى الأحكام المتعلقة بمكافحة الإرهاب أو على مستوى منع غسل الأموال بالإضافة إلى تسجيل قصور واضح في تحقيق الإنسجام التام للمنظومة القانونية التونسية وخاصة بين المؤسسات المتداخلة في تطبيقه كلجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي، وزارة العدل ووزارة الداخلية.
مجموعة العمل المالي (Gafi)
قصور القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال تأكد بعد خضوعه لتقييم مجموعة العمل المالي (Gafi) و هي منظمة حكومية دولية تعمل الدول الناشطة ضمنها على تحقيق الأهداف التالية:
- تبني وتنفيذ التوصيات الأربعين لمجموعة العمل المالي في شأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح.
- تنفيذ معاهدات واتفاقيات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
- التعاون فيما بينها لتعزيز الالتزام بهذه المعايير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتعاون مع المنظمات والمؤسسات والهيئات الإقليمية والدولية الأخرى لتعزيز الالتزام بها دوليًا.
- العمل المشترك لتحديد الموضوعات المرتبطة بعمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب ذات الطبيعة الإقليمية، وتبادل الخبرات في شأنها وتطوير الحلول للتعامل معها.
- اتخاذ تدابير في جميع أنحاء المنطقة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بفاعلية وبما لا يتعارض مع القيم الثقافية للدول الأعضاء وأطرها الدستورية ونظمها القانونية.
تقييم المنظومة القانونية التونسية لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال تم في مرحلتين : المرحلة الأولى في 2016 وأصدرت المجموعة تقرير في الغرض في ماي 2016 والمرحلة الثانية كانت بتقييم الإجراءات المتخذة في الغرض على ضوء التقرير الأول و إجابات الطرف التونسي بخصوص التوصيات غير المطابقة وبناءا عليه تم إصدار تقرير في الغرض بتاريخ 6 ديسمبر 2017 الذي يحتوي على عدم مطابقة 14 توصية من 40 توصية منبثقة عن المجموعة مما أدى إلى تصنيف تونس ضمن القائمة السوداء للدول شديدة المخاطر من حيث مكافحة الإرهاب وغسل الأموال.
أبرز هذه المؤاخذات تتمحور حول العناصر التالية :
- تحديد بعض التعريفات القانونية للمصطلحات الواردة في قانون مكافحة الإرهاب وغسل الأموال.
- التنسيق بين الهياكل المعنية بمكافحة الإرهاب خاصة فيما يتعلق بتتبع التمويلات المشبوهة وتجميدها.
- معايير وآليات التعرف على المستفيد الحقيقي في الحسابات و التمويلات المشبوهة.
تنقيح القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال
إزاء هذه الصعوبات في تطبيق قانون 2015 والمؤاخذات التي سجلها تقرير مجموعة العمل المالي (Gafi) تم الشروع في تنقيح هذا القانون حيث ينتظر عرضه في الأيام القادمة على الجلسة العامة لمجلس النواب للتصويت النهائي بعد أن اختتمت لجنة التشريع العام أعمالها حول التنقيحات المطلوبة بجلسات مطولة مع الأطراف المعنية كوزارة الداخلية ، وزارة العدل ، المحامين ، اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب ولجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي.
بعد هذه الجلسات تم الحسم في أغلب التعديلات المطلوبة لكن بقيت العديد من الإشكاليات العالقة التي تم ترحيلها للجلسة العامة وهي:
- الخلاف الحاصل بين وزارة العدل و وزارة الداخلية في إعتماد ذي الشبهة في إختراق الجماعات الإرهابية.
- إعتماد حد 500 دينار كموجب للتعامل بالحساب البنكي.
- السر المهني المتعلق بمباشرة المحامين لمهامهم.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
الإصلاحات الجبائية في قانون المالية : حول التصدي للتهرب الضريبي وتحديد مفهوم ومجال السر المهني
حلول ممكنة للقضاء على ظاهرة التجارة الموازية والسوق السوداء بقطاع السجائر
شارك رأيك