ستة نواب من الوطني الحر يلتحقون بحزب نداء تونس ثم يستقيلون بعد أسابيع قليلة، هذه الحادثة لم تثر إهتمام المتابعين للشأن السياسي الداخلي في بلادنا، لا لشيء إلا لأنها أصبحت من تقاليد ” ديمقراطيتنا ” الناشئة، بل من أهم علاماتها المتفردة ! فمنذ ثماني سنوات وظاهرة “الترحال البرلماني” تتشكل على إيقاع الإنتهازية وقلة الحياء والطمع والإنحدار الأخلاقي والجهل والسفاهة و” البداوة ” السياسية !
بقلم مصطفى عطية *
إن الذين أطلقوا على هذه الظاهرة المثخنة بكل آفات الإنحراف إسم “السياحة البرلمانية” يسعون إلى تخفيف أثقالها المنتهكة لقيم ومبادئ وشروط وٱلتزامات الديمقراطية ومؤسساتها، والترويج لها كممارسة إستعراضية عادية، في حين إنها غير ذلك تماما، وتنزف تخلفا وٱستهتارا، لذلك يصح عليها وصف “الترحال” بمفهومه البدائي المناقض للتطور والتقدم والإستقرار.
سيسجل تاريخ الديمقراطية في العالم نشوء “ديمقراطية” كربونية مشوهة في تونس، تتغذى من أهم مكونات البداوة، ألا وهو الترحال الذي يقترن عادة بعدم الإستقرار وانعدام المسؤلية والإستهتار بمفهومي الزمان والمكان وممارسة كل صنوف الإغارة والكر والفر !
يخطئ البرلمانيون الرحل، عندما يعتبرون تنقلهم من حزب إلى آخر ومن كتلة إلى أخرى، ضربا من ضروب الحرية السياسية، وكم بٱسم هذه الحرية المنفلتة تقترف الآثام، بل يذهب أكثرهم إيغالا في التمويه والمغالطة إلى اعتبار ترحالهم عملية “مراجعة” لقناعات سابقة، لكن هل يعقل أن ترتبط المراجعات بالإنتهازية والسفاهة والبيع والشراء و”قلبان الفيستة”، وتتعدد مرات في الإتجاهين، ذهابا وإدبارا ؟؟؟ المشكل هو أن مثل هذه المبررات الواهية والمشحونة بسذاجة مقرفة تحيلنا على حقيقة ثابتة، وهي الإنحدار المريع لأغلب ممثلي الطبقة السياسية الحالية في البلاد.
إنحسر المستنقع وظهر السابحون في أوحاله عراة !
إن طبيعة القانون الإنتخابي الأعرج، الذي تم وضعه على قياس بعض الأحزاب والتيارات التي تشكلت على إيقاع عاصفة الحراك الشعبي في الرابع عشر من شهر جانفي 2011، بتوصيات مفضوحة من قوى خارجية، تقر بأن الإقتراع يتم على أساس القائمات، بمعنى أن الإختيار جماعي وليس فرديا، وهو ما يفرض على كل من تم إنتخابه ضمن قائمة من القائمات أن يلتزم بالبقاء فيها وعدم مغادرتها إلا بٱستقالة من البرلمان، فالناخبون صوتوا على قائمات ولم يختاروا أفرادا، ولا يجوز أخلاقيا وقانونيا، السطو على أصوات المقترعين أو تغيير وجهتها وتدليسها فالترحال البرلماني هو من ضروب الغش والخداع والإنتهاك السافر للقوانين.
يتساءل الملاحظون بالداخل والخارج عن الأسباب الكامنة وراء صمت المؤسسات الدستورية والمراجع القانونية والسلط، بما فيها سلطة الإعلام، تجاه هذه الإنتهاكات الخطيرة للقيم والقوانين، ومصادرة أصوات الناخبين، وتشويه الديمقراطية، والزج بها في مستنقعات الإبتزاز والضغوطات والبيع والشراء، إذ أن بعض النواب دأبوا على عرض أنفسهم لمن يدفع أكثر، في سابقة مزلزلة عرى تفاصيلها أحد أغبياء السياسة ممن سقطوا في الفخ ودفعوا من “مالهم الحرام” لتكوين “مجموعات” تدين له بالولاء قبل أن يسحبوا من تحته بساط الخداع ويضحكوا على ذقنه !!! لما كل هذا الصمت إذن ؟ الجواب واضح لا لبس فيه وهو أن الأحزاب الماسكة بالسلطة والمسيطرة على المؤسسات الدستورية ومراكز النفوذ بالخصوص هي المنتفعة من هذا الترحال البرلماني وهذه البداوة السياسية، لتعزيز مواقعها من جهة ولٱبتزاز الأحزاب الصغيرة وإخضاعها لإرادتها ونفوذها من جهة أخرى.
سوق مضاربات وٱبتزاز وبيع ضمائر وشراء وعود
نحن اليوم أمام ظاهرة خطيرة على جميع الواجهات، من شأنها أن تنسف المسار الديمقراطي برمته وتحول الساحة السياسية، وقد حولتها فعلا، إلى سوق مضاربات وٱبتزاز وبيع ضمائر وشراء وعود، وتمرغ العمل السياسي في أوحال الوضاعة. لا بد، والحال تلك، من مواجهة هذا المد التدميري العاصف ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان .
صحيح أن العمل السياسي يستند في بعض الأحيان إلى المناورة والمواربة والخداع ولكن عندما يتعلق الأمر بمصداقية الديمقراطية وآلياتها ، كما صندوق الإنتخاب، تصبح الشفافية والنزاهة وتفعيل القوانين، أمرا حتميا لتأمين تواصل المسار وطمأنة الشعب على أن مصيره ومصير البلاد بين أيدي أمينة، لا تشوبها شائبة ولا يلطخها عار ! لكن أين نحن من هذه الأمنية وقد تدهورت الأوضاع إلى حضيض الممارسات الإنتهازية المبتذلة، وٱنحسر المستنقع ليظهر السابحون في أوحاله عراة !!!؟
* صحفي و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : “غلطوني” من بورقيبة إلى ساسة اليوم، الصرخة التي صنعت تاريخ الفشل السياسي في تونس
للتأمل فقط : هل يفعلها الباجي … ويقلب الطاولة على القيادة الحالية للنداء ؟!
شارك رأيك