بتاريخ 12 جانفي 1974 تم التوقيع على “اتفاق جربة” بين تونس وليبيا، أوإاتفاق الوحدة الليبية التونسية الذي جاء بشكل مفاجئ وتم إلغاؤه كذلك بصورة مفاجئة دون توضيحات أو أسباب أو تبريرات، فلماذا تم إجهاض “دولة الــ24 ساعة فقط”؟ و ماهي الأسباب التي إستوجبت الإعلان عن قيامها و لماذا تم التراجع عن ذلك؟
بقلم عمّـار قردود
منذ 45 سنة بالتحديد، وخلال زيارة مفاجئة وغير مُعلنة للعقيد الليبي الراحل معمر القذافي إلى تونس يوم 12 جانفي 1974، و إلى جزيرة جربة بالتحديد، تم الإعلان مع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عن إنشاء وحدة بين البلدين في أوج نضوج القومية العربية. هكذا، ودون دراسات وافية وكافية عن الإتحاد بين بلدين مختلفين، تقرر الإعلان عن إنشاء”الجمهورية العربية الإسلامية” وهي نتاج إنصهار ودمج تونس و ليبيا في بلد واحد.
و تقرر، وفقًا للإتفاق الموقع آنذاك، أن يكون الحبيب بورقية هو رئيس الجمهورية الجديدة أو البلد الوليد والجديد، ومعمر القذافي هو نائب الرئيس والمسؤول عن الدفاع والجيش، و عين الليبي عبد السلام جلود وزيرا أولا و وزير الخارجية التونسي محمد المصمودي في منصب نائب الوزير الأول.
حركة مشهودة لم تدم سوى يومًا واحدًا
والغريب أن التراجع عن الإتحاد بين تونس وليبيا أو بمعنى أصح نقض الإتفاق وإجهاض قيام الدولة الجديدة في المغرب العربي جاء من طرف الرئيس التونسي الراحل بالرغم من أنه كان سيبقى رئيسًا – وهو ما يريده – والأكثر من ذلك أنه سيكون رئيسًا لبلدين كاملين وهما تونس وليبيا، ومن الناحية الإقتصادية كانت تونس هي المستفيدة الأول والأكبر من مشروع الإتحاد بسبب الثروات الباطنية كالغاز والبترول التي تمتاز بهما ليبيا، ناهيك على تعهد ليبيا بتسديد كل ديون تونس الخارجية، كما أن لليبيا جيش قوي وكانت قوة عسكرية بالمنطقة ومُهابة الجانب خاصة من دول الجوار وهو إمتياز آخر لتونس. فلماذا قرر الرئيس بورقيبة نقض الإتفاق في ظرف زمني وجيز؟ هل تعرض إلى ضغوطات وتهديدات معينة ومحددة من جهات وقوى قوية قد تكون داخلية أو خارجية أو ربما الإثنين معًا لا يروقها قيام دولة قوية بالمنطقة، فسارعت إلى إجهاض المشروع في مهده؟
لقد كان مقرراً أن يتم المصادقة على اتفاق الوحدة أو الإتحاد بين تونس و ليبيا بعد إقامة استفتاء شعبي في البلدين، لكن أمام عدم ورود نص في الدستور التونسي حول إجراء استفتاء تم تأجيل المشروع بداية قبل أن يُلغى. بعد رفضه من قبل عدد من السياسيين التونسيين على رأسهم الوزير الأول التونسي آنذاك الهادي نويرة، وعدول بورقيبة عنه.
خارطة الجمهورية العربية الإسلامية التي لم ترى النور.
لكن تراجع تونس عن إتفاق الوحدة مع ليبيا جلب لها الكثير من المتاعب وتسبب في فتور وتوتر لافت في العلاقة بين بورقيبة و القذافي. وأدى إلى نشوب أزمة ديبلوماسية حادة بين تونس وليبيا وصلت إلى حد طرد الجالية التونسية من ليبيا.
بورقيبة كان يحسّ بنوع من النقص بسبب صغر مساحة تونس وإفتقارها للثروات الطبيعية، ربما يكون قد سبب له عقدة خاصة وأنه كان لا يشعر بالراحة والإطمئنان بتواجد تونس الصغيرة بين عملاقين هما الجزائر وليبيا، فإختمرت في ذهنه فكرة الإتحاد مع ليبيا وعرض الفكرة على القذافي الذي تلقفها بقوة وتبناها بشدة.
برود العلاقات بين تونس وليبيا التي دبرت عملية قفصة
بورقيبة بعد أن أبلغ القذافي بتراجعه عن قرار الوحدة لأسباب خارجة عن نطاقه، حاول القذافي معرفة الأسباب و أراد زيارة بورقيبة في تونس لكن تم إعلامه بأن الرئيس بورقيبة في زيارة إلى العاصمة السويسرية جنيف، فما كان من القذافي إلاّ أن استقل طائرةً خاصة وتوجه على وجه السرعة إلى جنيف من أجل اللحاق ببورقيبة، وكان له ما أراد، حيث التقى بالرئيس التونسي فأعرب له عن استنكاره الكبير وصدمته هو وكافة الشعب الليبي مما حصل من إلغاء للاتفاق.
بورقيبة إجتهد كثيرًا في تبرير تراجعه عن الإتفاق للقذافي وساق له جملة من الأسباب القانونية والدستورية التي كانت حائلاً دون تجسيد المشروع على أرض الواقع، لكن القذافي لم يقتنع بتبريراته واعتبرها غير منطقية، ليدخل البلدان بعد ذلك في أزمة دبلوماسية عميقة استمرت لعدة سنوات.
الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، بل شهدت العلاقة بين تونس وليبيا تطورات خطيرة، ففي سنة 1980 قام مجموعة من المسلحين ينتسبون للمعارضة التونسية؛ بالاستيلاء على مدينة قفصة الحدودية مع الجزائر ودعوة سكانها إلى الإطاحة بالرئيس بورقيبة وقلب نظام الحكم.
و إستنجد الرئيس بورقيبة بفرنسا وتم القضاء على أغلب المشاركين في العملية. فيما تم إلقاء القبض على البعض الآخر، وقُدموا للمحاكمة، حيث أعدم 11 منهم على الأقل. وقد وجهت تونس أصابع الإتهام مباشرة إلى ليبيا وخاصة العقيد معمر القذافي وأن من بين المتهمين في أحداث قفصة شباب ذوو توجهات قومية ثورية تشبه الحراك السياسي الثوري الذي جاء بالقذافي للحكم سنة 1969، لتتأزم الأوضاع بين الجارتين على إثر هذه الحادثة أكثر فأكثر.
تقول مصادر متطابقة وشهادات تاريخية بأن الرئيس بورقيبة كان أكبر الحالمين و المتحمسين لمشروع الوحدة بين تونس وليبيا، بل أنه كان هو صاحب فكرة الإتحاد وكان يُمنيّ النفس بتحقيقه وتجسيده على أرض الواقع لعدة إعتبارات موضوعية كثروات ليبيا الطبيعية وقوة جيشها وهما الشيئان اللذين كانا ينقصان تونس. لكن المحيطين به كان لهم رأي آخر وبذلوا مجهودات جبارة لإلغاء الإتفاق ووضع الرئيس بورقيبة في حرج كبير خاصة أمام العقيد الليبي معمر القذافي.
علم الجمهورية العربية الإسلامية الذي لم يقدر له أن يرفرف لا في تونس ولا في ليبيا.
بورقيبة خاف من إنقلاب عسكري من تنفيذ القذافي فراح ضحية إنقلاب أبيض لبن علي
المستشار التربوي بجهاز التفتيش والرقابة الشعبية بليبيا آنذاك، محمد العيساوي الشتوي، وهو تونسي مقرب من العقيد القذافي، وفي منتدى الذاكرة الوطنية المنتظم ببادرة من مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات كشف بأن”وزراء تونسيون أفشلوا حلم الدولة”. وذكر العيساوي أن السياسي والدبلوماسي التونسي، الحبيب الشطي، أخاف بورقيبة من عواقب الوحدة وقال له: “كيف تبيع تاريخك أيها الزعيم وتضحي بالحزب الدستوري مقابل الوحدة مع ليبيا؟”. فأجابه بورقيبة: “إن ليبيا ستسدد كامل ديون تونس، كما سأكون أنا رئيسًا للدولتين معًا”، فقال له الشطي: “إن معمر القذافي لا يؤمن له جانب، وما دام الجيش بيده فيمكنه أن يقصيك من الحكم متى شاء”. ولما سمع بورقيبة هذا الكلام خاف وعدل عن مشروع الوحدة”.
فيما كشف منسق العلاقات الليبية المصرية سابقًا، أحمد قذاف الدم، لصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، قائلاً: “فوجئ الليبيون بتوقف تونس، من طرف واحد، عن العمل المشترك، وعندما أرادنا أن نعرف سبب عدم الاستمرار في العمل على اتفاق الوحدة، لم نتمكن من الحديث مع الرئيس بورقيبة، لأنه كان قد ترك تونس فجأة وغادر إلى جنيف”. وأشار قذاف الدم بأصابع الإتهام إلى فرنسا التي لا تريد دولة قوية في المنطقة المغاربية التي تعتبر عمق إستراتيجي لها في إفريقيا والعالم ككل.
الاتفاق الذي لم يصمد إلا 24 ساعة فقط لا غير، أصر فيه الرئيس التونسي بورقيبة على إعادة وثيقة الوحدة الموقعة بين البلدين، وقال قذاف الدم: “كانوا مصرين على أن تعيد ليبيا لتونس وثيقة الاتحاد الموقعة بين البلدين، ظنًا منهم أنه في حالة وفاة الرئيس بورقيبة ستستخدمها ليبيا لفرض الوحدة بالقوة”.
و بالفعل سعت تونس جاهدة منفردة و بمساعدة عدة دول شقيقة وصديقة من أجل استرجاعها. وهو ما تحقق لها في النهاية، حيث وافق العقيد الليبي معمر القذافي على تسليم الوثيقة، وسافر إلى تونس وسلم الوثيقة من يده إلى يد بورقيبة الذي كان سعيدًا وممتنا للقذافي على ذلك لتعود العلاقات بين تونس وليبيا إلى مجراها الطبيعي وطي صفحة “الجمهورية العربية الإسلامية” إلى الأبد.
و السؤال المطروح اليوم بعد مرور 45 سنة عن إعلان الوحدة المجهضة بين ليبيا وتونس هو: ماذا لو تحقق الإدماج بين البلدين وإستمر حتى الآن… هل سيكون حال تونس و ليبيا أفضل مما هو عليه حاليًا؟ هل سيكون الوضع الحالي أفضل أم أسوأ؟ لا يمكن الإجابة عاى مثل هذه الأسئلة لأنه لا يمكن أن نعيد التاريخ…
شارك رأيك