يدرك الشيخ راشد الغنوشي أن تخفيف الضغوطات الخارجية عن حركة النهضة وتأمين مشاركتها في الحكم في تونس وتيسير ترشحه لرئاسة الجمهورية رهين خروجه على الملإ لإعلان الميثاق المؤسس لحركته لاغيا أو بعبارة أدق «caduc».
بقلم مصطفى عطية *
عندما هم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بمغادرة الولايات المتحدة بعد مصافحته التاريخية لرئيس وزراء الكيان الصهيوني الراحل إسحاق رابين بوساطة من الرئيس الأمريكي بيل كلنتون، طلب منه هذا الأخير أن يعقد مؤتمرا صحفيا يعلن فيه أن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الذي يتضمن عدم الإعتراف بإسرائيل والمطالبة بزوالها قد أصبح لاغيا وأكد كلينتون لعرفات على ضرورة إستعمال الكلمة الفرنسية. وهو ما نفذه عرفات بحذافيره…
تفيد بعض المعلومات المسربة عمدا من داخل المؤسسات الأمريكية أن السيناريو الذي عرض على عرفات سيعرض على راشد الغنوشي الذي سيطالبه الأمريكيون والأوروبيون بحتمية الإعلان عن إلغاء الميثاق المؤسس لحركة النهضة والذي يتضمن المطالبة بتطبيق الشريعة والإيحاء بالسعي إلى إقامة الخلافة، وذلك كشرط أساسي لٱندراج الحركة في المسار المدني المطلوب وتقديم مرشحها للرئاسة والمشاركة الديمقراطية في الحكم المدني.
لماذا تنجح الديمقراطية في العالم المسيحي-اليهودي ، وتتعثر في الربوع الإسلامية ؟
وقبل الخوض بالتفاصيل في هذا الشرط المنزل تنزيلا على حركة النهضة وقيادتها لا بد من التذكير بأن الديمقراطية ولدت من أبوين شرعيين هما التحديث السياسي والتنوير الفكري، فعندما تم تخليص “المقدس” من لوثة ” المدنس”، أي توقف المؤسسة الدينية عن لعب دور الوسيط بين الإنسان وخالقه وبالتالي السيطرة على حياة البشر والتفرد بشؤون الدين والدنيا، ولما نجح المفكرون المستنيرون أمثال مونتسكيو وروسو وفولتار في تمرير أفكارهم الإنسانية، أصبحت الظروف الموضوعية مهيئة لنشوء الديمقراطية وٱزدهارها.
هذا الذي حصل في الغرب وكان سببا في تفوقه الحضاري لم يحصل في العالم العربي، وحتى في بعض الأقطار التي فصلت الدين عن الدولة، كما في تونس خلال الجمهورية الأولى بمرحلتيها، فالفكر التنويري لم يستطع إختراق الفئات الشعبية والتأثير فيها، بل وجد صدا عنيفا في أغلب الأحيان تمثل في ما تعرض له مفكرون مستنيرون أمثال محمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين في مصر، والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور وسليمان بن سليمان في تونس، على سبيل المثال وليس الحصر، من عسف وٱضطهاد ورفض، وحتى المحاولات “الديمقراطية ” أو الشبيهة بها، التي شهدتها بعض الأقطار العربية على امتداد العقود الماضية باءت بالفشل الذريع، حيث تم إختزال الممارسة الديمقراطية في صندوق إنتخاب يوفر الفرصة لتكتل الذين لا يعلمون ضد الذين يعلمون.
وبالرغم من مرور ما يقرب عن ثلاثة أرباع القرن على هذه المحاولات، وتطور المستوى العام للشعوب العربية واندلاع ما إصطلح على تسميته ب:” الربيع العربي” فإن بوادر الخلل ذاته ظهرت مجددا في التجارب الديمقراطية الراهنة وخاصة في بلادنا.
من هذا المنظور بالذات تصبح الإجابة واضحة عن السؤال الأزلي : لماذا تنجح الديمقراطية في العالم المسيحي-اليهودي ، وتتعثر في الربوع الإسلامية ؟
حركة النهضة في مواجهة ضرورة الفصل الفعلي بين الدين والدولة
يعرف قياديو حركة النهضة وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي أن الديمقراطية التي دأبوا على تأكيد إندراجهم في منظومتها وٱلتزامهم بقوانينها ومبادئها وشروطها، لا يمكن أن تنجح في ظل التمسك بربط الديني بالسياسي، لأن القاعدة هي الفصل بينهما، فحتى مايسمى بالأحزاب “الديمقراطية المسيحية” التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إعتمدت على قولة المسيح “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، في ٱلتزام واضح بفصل الدين عن الدولة، وهو ما كان منتظرا، في وقت من الأوقات من حركات “الإسلام السياسي” المطاردة من الأنظمة العربية والتي وجدت ملاجئ في أوروبا وأمريكا بسبب ما كانت تروج له من أن الإسلام لا لا يتعارض مع الديمقراطية على أساس : ” وأمركم شورى بينكم”.”
كانت الفرصة قد سنحت أمام حركات “الإسلام السياسي”، بعد تغير الأوضاع في العديد من البلدان العربية بدءا بتونس، للإندراج في المسار الديمقراطي على أساس تطبيق أهم شروطه وهو فصل الدين عن الدولة، لكن التجربة فشلت فشلا ذريعا في مصر لأن حركة الإخوان المسلمين التي فازت بالإنتخابات الرئاسية والتشريعية في أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر، وبفارق ضئيل جدا، تجاهلت النصف الثاني من الناخبين الذين لم ينتخبوها، وٱنطلقت في ” أخونة ” المجتمع المصري الذي يضم نسبة هامة، تفوق العشرة بالمائة، من الأقباط المسيحيين، وأكثر منها أضعافا من العلمانيين الذين يطالبون بدولة مدنية، دينها في المساجد والكنائس والمعابد الأخرى.
هذا الخطأ التقديري للإخوان المسلمين أسقطهم في فخ إزدواجية الخطاب، مما برر في نظر بعض القوى الأجنبية كأمريكا والبلدان الأوروبية، الإنقلاب العسكري الذي قام به السيسي.
كان فشل التجربة المصرية قد أيقظ لدى صناع القرار في أمريكا وأوروبا رغبة في مراجعة مواقفهم من “الإسلام السياسي”، وذهبت بعض البلدان على غرار الولايات المتحدة وبريطانيا إلى حد تصنيف حركة الإخوان المسلمين “منظمة إرهابية”، وبدأت الضغوطات تحاصر بقية الحركات الإسلامية في البلدان العربية ، بما فيها تونس، للقطع مع ” الإسلام السياسي” والتنصل من الإنتماء لحركة الإخوان المسلمين، وإعلان الإندراج الكامل في المنظومة الديمقراطية وتطبيق أهم شروطها أي : ” فصل الدين عن السياسة”
حمل زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، أثقال كل هذه الضغوطات على أكتافه، وكان لا بد أن يواكب المستجدات الحاصلة وإيجاد صيغة ناجعة للحفاظ على الحركة من جهة والتمسك بجوهر ميثاقها من جهة أخرى، وهي معادلة صعبة جدا، وقد ازدادت صعوبة مع اشتداد الضغط الخارجي، وخاصة الأمريكي والأوروبي، من جهة، وتشبث بعض قياديي الحركة بصبغتا الدينية وولائها لتنظيم الإخوان المسلمين من جهة أخرى. يدرك الشيخ راشد الغنوشي أن تخفيف الضغوطات الخارجية عن حركته وتأمين مشاركتها في الحكم وتيسير ترشحه لرئاسة الجمهورية رهين خروجه على الملإ لإعلان الميثاق المؤسس لحركة النهضة لاغيا أو بعبارة أدق «caduc».
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : الترحال البرلماني و” البداوة ” السياسية في تونس
للتأمل فقط : “غلطوني” من بورقيبة إلى ساسة اليوم، الصرخة التي صنعت تاريخ الفشل السياسي في تونس
للتأمل فقط : هل يفعلها الباجي … ويقلب الطاولة على القيادة الحالية للنداء ؟!
شارك رأيك