الديمقراطية لا تنفع الفقراء والمعوزين والجياع في شيء لأن البطون الخاوية لا تكترث بمثل هذه “الكماليات”. تونس بحاجة اليوم إلى إطلاق الجهاد الأكبر ضد الفقراء كما فعل بورقيبة و معاونوه خلال الستين سنة الأخيرة.
بقلم مصطفى عطية *
مازالت التصريحات المتداولة في كافة المنابر حول الصراع الكارثي بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل، وما تداعى عنها من إضراب عام وتهديد بآخر مماثل، تسيطر على تعاليق الخاصة والعامة في ظل إضطرام براكين من الأزمات الأمنية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية والرياضية، هي في الأصل إرث ثقيل جدا ومتراكم طيلة ثماني سنوات، غلبت عليها مظاهر الفوضى والإنفلات والتسيب، والإرتجال وتعطل مؤسسات الإنتاج وتلاشي هيبة الدولة وضعف أجهزتها وتهميش النخب وإقصاء الكفاءات وترك الحبل على الغارب للشارع ليفرض إرادته عبر ضغوطات الإحتجاجات والإضرابات وفي خضم هذه المد المضطرب إتسعت رقعة الفقر بعد أن ضرب بسياطه المؤلمة الطبقة الوسطى، وهي الأكبر في تركيبة المجتمع.
أزمة الفقر المتفاقمة بشكل مزعج
يمكن إعتبار ظاهرة الفقر الزاحف في بلادنا، بسرعة وشراسة كبيرتين، أخطر أزمة تعترض البلاد في هذه المرحلة الحاسمة والدقيقة والحرجة من مسيرتها، خاصة وأن تردي الأوضاع الإقليمية وتواصل ما يشبه الحرب الأهلية في ليبيا وما تداعى عنها من مشاكل إرتدادية على بلادنا زاد في تعميق أزمة الفقر المتفاقمة بشكل مزعج.
لا بد من التذكير في هذا السياق بأن الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه من بناة الدولة الحديثة كانوا قد جعلوا من محاربة الفقر، منذ الأيام الأولى التي تلت إستقلال البلاد، “الجهاد الأكبر”، فوضعوا للغرض خططا آنية عاجلة وأخرى آجلة، وآليات تنفيذ ومتابعة ومراقبة وتقييم، حتى تحققت نجاحات باهرة نوهت بها المنظمات الأممية المختصة، ثم واصل الوزير الأول، المصلح الإجتماعي والإقتصادي الهادي نويرة، محاربة آفة الفقر بٱستنباط وسائل وطرق وأساليب أخرى أثبتت فاعليتها وتبنت تطبيقها العديد من بلدان العالم الثالث في إفريقيا وآسيا بالخصوص، وأصبحت التجربة التونسية في هذا المجال مثالا يقتدى به، لتتواصل عبر آليات جديدة في أواخر الثمانينات وطيلة تسعينات القرن الماضي ولم تتعثر وتفقد زخمها تدريجا إلا قبل سنوات قليلة من سقوط النظام السابق.
الإستئناس بتجارب تونس منذ الإستقلال
أردنا التذكير بهذه الحقائق للتأكيد على أهمية وفاعلية التجربة التونسية في مكافحة آفة الفقر، بمعنى أن حكومة يوسف الشاهد ليست هي الحكومة الأولى في تاريخ بلادنا منذ الإستقلال التي تجد نفسها في مواجهة أزمة مالية وٱقتصادية وٱجتماعية خطيرة، فبعد حكومة الإستقلال، التي أطلقت على عمليتها عنوان “الجهاد الأكبر”، كما ذكرنا آنفا، وحكومة الهادي نويرة التي ورثت في الثاني من شهر نوفمبر 1970 وضعا كارثيا على جميع المستويات بعد الفشل الذريع لتجربة التعاضد، كان قدر حكومة زين العابدين بن علي أن تواجه نفس الآفة بعد وصول البلاد إلى حافة الإفلاس مع مطلع النصف الثاني من الثمانينات.
كل هذا الإرث الهائل من التجارب في مواجهة االأزمات وما ترتب عنها من اتساع لمساحة الفقر في البلاد موجود على ذمة حكومة “الوحدة الوطنية” ويمكن لها أن تستفيد منه، خاصة وأن الكثير من الكفاءات الوطنية، التي ساهمت من موقع القرار والتخطيط والتنفيذ، في إنجاح تلك التجارب مازالت موجودة وقادرة على الإضافة.
إن كل ما يطلبه التونسيون الآن، وقبل الحرية المنفلتة وديمقراطية الواجهات، هو أن يجد يوسف الشاهد الجرأة الكافية للإستئناس بالتجارب المتراكمة على امتداد أكثر من ستة عقود والإستنارة بمعارف الكفاءات الوطنية التي ساهمت في ذلك وٱتخاذ القرارات “القيصرية المؤلمة” للحد من إتساع هذه الآفة، لأن تحقيق الأمن والإستقرار في البلاد وتأمين نمو الحرية والديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان مرتبط إرتباطا عضويا بالنجاح في محاربة الفقر، ثم لا ننسى أن الفقر والإرهاب توأمان لا ينفصلان، إذ كلما إتسعت مساحات الفقر والإحتياج والتهميش إلا وتعددت بؤر التطرف والتشدد والتمرد والإرهاب.
الديمقراطية لا تنفع الفقراء والمعوزين والجياع
لا يمكن مقاومة الإرهاب بنجاح دون إيجاد حلول ناجعة للحد من ظاهرة الفقر والقضاء عليها لأن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي، وقد أثبت التجارب ذلك في كل الأمكنة التي أبتليت بالإرهاب.
إن المسألة أصبحت على غاية من الخطورة بعد أن إشتعلت الأضواء الحمراء وأصبحت الدولة تقترض من المصارف الدولية لتأمين صرف جرايات موظفيها ومعاشات متقاعديها وتصاعدت نسب الذين يعانون من الفقر وما تحت الفقر، إلى أرقام قياسية لم تعهدها بلادنا منذ ثلاثة عقود على الأقل وهو ما من شأنه أن يزيد في تأزيم الأوضاع الإجتماعية وإنتشار ظاهرة التحيل والتهريب وإرتكاب الجرائم بكل أنواعها بما فيها الإرهاب، فالتغني، تباهيا، بأن بلادنا ديمقراطية وتمارس الحرية، على ما في هذا التباهي من مغالطة وتضخيم، لا ينفع الفقراء والمعوزين والجياع في شيء لأن البطون الخاوية لا تكترث بمثل هذه ” الكماليات .
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : “حجيج مونبليزير”، أو عندما يهرع التجمعيون إلى إنقاذ حركة النهضة !
للتأمل فقط : الإضراب العام في تونس بين الإفلاس السياسي و”التوحش” المطلبي
شارك رأيك