في هذا النص يدلي الكاتب بشهادة شخصية عن الكاتب والسياسي مصطفى الفيلالي الزعيم النقابي والوزير السابق الذي فارقنا بداية هذا الأسبوع عن سن تناهز 94 عاما بعد مسيرة حافلة بالإنجازات.
بقلم سُوف عبيد *
ـ 1 ـ
كنت ألتقيه من حين إلى آخر وهو يسير في شوارع مدينة رادس فأبادر بتحيته باِحترام فيردّ بلطف ومَن في رادس لا يعرف سِي مصطفى الفيلالي الذي تراه كأيّها الناس يقضي شؤونه اليومية فاِختلاطه بمختلف أصنافهم وأجيالهم لم يزده لديهم إلا تقديرا وتبجيلا وإنك تراه وقد تجاوز التسعين حَوْلا نشيطا في خَطوه أنيقا في هندامه العصريّ أو التّونسي بلا خُيلاء ولا كبرياء يحمل قُفّته ويشتري بضاعته منتظرًا دوره ويُحيّي هذا ويقف مع ذاك ثمّ يمضي إلى سيّارته.
كنتُ أحيانا أصادف سِي مصطفى الفيلالي في مَحلّ ـ الببلينات ـ يراجع فصلا من أحد فصول كتبه ليكون جاهزا كأحسن ما يكون للطبع فالرّجل ولئن اِشتهر سياسيا من الرّعيل الأوّل لوزراء حكومة الاِستقلال بالإضافة إلى نشاطه النقابي والتّربوي فإنه كاتب يل أديب أيضا ذو أسلوب بليغ فقارئ كتبه المتنوّعة المضامين والمتراوحة بين السّيرة الذاتية والتأملات الفكرية والأطروحات السياسية والاِقتصادية والدّينية يستشّف من قلمه أنه مثقّف من طراز رفيع ومن كتبه نذكر “أمّ حامد” ، “مانعة…”، “أيّام قرية الجبل”، “مجتمع العمل”، “موائد الإنشراح”…
ـ 2 ـ
إنّ الأستاذ مصطفى الفيلالي ينتمي إلى جيل من المثقفين التونسيين الذين عاصروا الحركة الوطنية فاِنخرطوا في مختلف مراحلها وتعبيراتها شأنَ عددٍ كبير من الأدباء مثل علي البلهوان ومحمود المسعدي ومحمد المرزوقي ومنوّر صمادح فعرف أغلبهم مَعْمَعَان السياسة واِكتوى الكثير منهم بجمر الحكم بعد الاِستقلال لكنّ سي مصطفى الفيلالي عرف كيف يخرج من أتّونها واِنزلاقاتها سالمًا مرفوع الرأس فليس من السّهل أبدا أن يرفض كرسيّ رئاسة الحكومة التونسية عندما حَظِيَ بإجماع الفاعلين السياسيين سنة 2013 ورشّحوه لهذه المهمّة الجسيمة حيث قال أبو العتاهية في المهدي العباسي عندما بُويع بالخلافة :
أَتَتــهُ الخِلافَــــــةُ مُنقادَةً * إلَيـــهِ تُجَــــرِّرُ أَذيــالَها
وَلَــم تَـــكُ تَصلُحُ إِلّا لَـهُ * وَلَـــم يَــكُ يَصلُـحُ إِلّا لَها
لكن ّ سِي مصطفى أدرك برأيه الثاقب وبحنكة خبرته وكذلك بصفاء سريرته أنّ هذا الكرسيّ ـ لا يصلح له ولا به ـ وفي هذا الموقف تبدو وطنيّة الرّجل وصدقه ونبله فما أعظمه من مثقّف نادر الوجود خاصة في هذه السنوات التي اِختلط فيها الحابل بالنّابل مثل قول الشاعر القديم :
لقد هزُلت حتّى بدا مِنْ هُزالها * كُلاها وحتّى سامَها كلّ مُفلسِ
ـ 3 ـ
وقد حضرتُ منذ سنوات بدار الشباب برادس ندوة حول ـ الزعيم الحبيب بورقيبة ـ وقد أدلى فيها الأستاذ مصطفى الفيلالي بشهادنه فيه فصرّح بين الحاضرين وأكّد أن الحبيب بورقيبة كثيرا ما يستشير أعضاده ووزراءه وأنه لا يجد حرجًا في تغيير رأيه او موقفه في مسألة من المسائل بعد الإنصات إلى مختلف الآراء فيتراجع عن فكرته إذا تبيّن له الأصلح والأنسب وقد رأى سي مصطفى أنّ يعض الأخطاء التي عرفتْها البلاد في عهد بورقيبة لا يتحمّل وزرها يورقيبة وحده وإنّما المسؤولية يتحمّلها معه أيضا جميع الذين كانوا من حوله في أخذ القرارات وتنفيذها .
إنّها لَعَمْري شهادةٌ نادرة من رجُل دولة ما أحوج تونس لأمثاله !!
* شاعر وكاتب.
من أعلام المعاصرة المثقف الكبير الأستاذ مصطفى الفيلالي، رحمه الله…
شارك رأيك