أزمة اللجنة البرلمانية للتحقيق في قضية تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتّر تميط اللثام عن مدى تدنّي الأمور بالبلاد، حيث لا تتوانى بعض قوى الإسلام السياسي، حتّى تتخلّص من تبعات مسؤولياتها، عن السعى بدون حياء لمنع الكشف عن الحقائق رغم أنها لم تعد تخفى على أحد. فإلى متى هذا التهوّر والاحتلال المقيت للذهن التونسي بمثل هذا التلاعب بأبسط مقتضيات دولة القانون والأخلاقية الإسلامية التي تحتّم النزاهة؟
بقلم فرحات عثمان *
لا شك أن فشل الغرب في إسقاط النظام السوري هو الذي شجّع على فتح ملف التجنيد للجهاد؛ على أنه لئن حتّم الواجب القانوني والأخلاقي والديني إماطة اللثام عن كل المسؤوليات في ذلك، فمن الضروري أيضا الإفصاح عن كل الحقائق في الموضوع برمّته. فليس التسفير إلا الجانب السطحي لما يمثّل ظاهرة هي بمثابة الجبل الجليدي بقاع البحر؛ فهلا قلنا الحق، ولو على أنفسنا؟ إن الإسلام يحتّمه، طالما لم يكن تجارة أو توطئة للسياسة، إسلاما دعيّا.
لخبطة النخب القيمية
لقد وصلت اللخبطة القيمية عند النخب أقصى مداها، وهي هنا في التعتيم على حقيقة أن الإسلام السياسي بتونس صعد إلى الحكم في نطاق لعبة حاكها رأس المال المتوحش لغايات في نفس يعقوب؛ فكان هذا التحالف الذي نراه بينه وبين الإسلام المتزمت. لقد استغل الغرب، وعلى رأسه زعيمه الأمريكي، تطلعات الشعب التونسي للانعتاق من ربقة نظام يقمع الحقوق والحريات، لا لتحقيقها بل لفرض من يسعى لمصالحه من ساسة الإسلام الدعي.
الدليل على ذلك أن السلط التي أتت إلى الحكم لم تغيّر أي شيء يُذكر في منظومة الحكم القانونية للديكتاتورية، بل سعت إلى استغلالها لفرض ديكتاتورية ثانية أفحش من الأولى لأنها تستغل الدين لمآرب لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالإسلام الصحيح، السمح المتسامح، إذ تحتلّه ذهنيا.
كان هذا ديدن كل السلطات التي اعتلت منصة الحكم منذ ما سمّي ثورة، وليس هو إلا انقلابا شعبيا. لذا، رأينا النخب، على الأقل نظريا، تشجّع سفر شبابنا إلى بؤر التوتر لقلب الأنظمة القائمة باسم الدين أولا والحريات ثانيا، مستغلة هذا الفهم الغالط للجهاد الأصغر الذي انتهي وولى زمانه في الدين الصحيح، تماما كما انتهى زمن الهجرة بعد قيام دولة الإسلام. ولا شك أنها طالما رفضت الكلام في انتهاء حلية الجهاد الأصغر ولم تصرح بغلق بابه شرعيا، لتنمّي اللخبطة القيمية التي تعاني منها والتي تجعل من الدين أفيون الشعوب حسب مقولة المفكّر الشهيرة.
هذا، وقد علمنا أن مقولة ماركس عنت بداية الدين المسيحي؛ إلا أنها اليوم تنطبق على جميع الأديان، بما فيها الإسلام، رغم أنه أتى مصححا لما سبقه؛ بل هي تنطبق خاصة على إسلام اليوم الذي أصبح إسلام سياسة نابذا كل ما فيه من روحانية حقّة، سوى ما من شأنه مغالطة الناس بنفاق تقوى الجوارح، ليس فيها من تقوى القلب ولا نقيرا.
الإسلام بين الروحاني والسياسي
من الضروري التذكير أن الإسلام في معناه الأصيل هو ثنائية دينية ومدنية، فهو الدين الدنيوي والدنيا الدينية بامتياز. هذا يعني أن صفته الأولى الأصلية هي الروحانية؛ إلا أنها ليست روحانية مجرّدة ومنبتّة عن الواقع المعيش، بل هي متجذرة فيه، إذ لا رهبانية في الإسلام، أي الانقطاع عن أمور الدنيا لدين لا علاقة له بالدنيا، غير متجسّد فيها.
ذصفة الإسلام الأولى هي الروحانية؛ وصفته الثانية هي المعاملات التي لا بد لها أن تكون إسلامية، تماهيا ضرورة بالصفة الأولى لا نبذا لها؛ فلا معاملات إسلامية ولا دنيا خارج صفة الروحانيات، وإلا فلا إسلام. فالمعاملات الإسلامية هي في التزام كل مكارم الأخلاق التي جاء الرسول متمما لها، وكان الدين داعيا لها، من عدل ومساواة وكف لليد واللسان عن الإساءة، وغض للنظر عما فيه إساءة، وخاصة رفض النفاق والتظاهر والمراءاة.
وليس هذا إلا ما يختزله الجهاد الأكبر، الجهاد الوحيد اليوم في الإسلام، وهو جهاد النفس عن نوازغها، بما فيها خاصة ما فيه تبليس إبليس الذي يجعل من درر الحكم والأخلاق الإسلامية بعرات، حسب مقولة التوحيدي، نظرا لقصر نظر فقهاء اليوم عن جوهر الدين وقد غدوا ذبان البلاطات السياسية ومنابر إعلام، في ركاب ساسة تخدم مصالحها باسم الإسلام.
الإسلام الروحاني تحرير للذهن
الإسلام الروحاني هو الإسلام الصحيح رغم صفته السياسية كدين للدنيا، بمعنى أن الدنيا هي التأهيل للدين في المعنى الآنف الذكر. هذا المفهوم الروحاني الأصيل هو الذي يرفضه الأدعياء من أهل الإسلام من مردة الساسة وفقهاء ليسوا في الحقيقة إلا سدنة كنائس ومعابد لا وجود لها في دين محمد. فقد فهموا الدين وعملوا به كسياسة في معناها الماكيافيلي ونبذوا كل ما فيها من روحانيات بينما هي التي تجعل من الدين التسليم لله لخدمة مقاصده.
لقد أصبح الإسلام اليوم دين السياسة، هذا الإسلام السياسي أو إسلام السياسة بامتياز؛ وهي سياسة احتلالٍ لذهن المسلم. وليس هذا جديدا في تاريخ الإسلام ، إذ منذ نشأته، رغم أنه أتى محرّرا للعربي، مؤيدا نزعته للحرية بصبغة روحانية لا حدود لها، سرعان ما انقلب إلى احتلال للذهن العربي. كان هذا منذ فتح مكة وانقلاب الدين من روحانيات بحتة إلى سياسة أخذت الروحانيات فيه تتلاشى شيئا فشيئا، بل وتختفي أحيانا لتعود بين الحين والحين حسب الأهواء أو نيّة الحاكم. بذلك أصبح الدين إسلام سياسة لا الإسلام السياسي الذي تتناغم فيه الروحانيات والسياسة بمعناها الأصيل، أي مدنيتها، وهي ترتيب أمور المدينة بحنكة ودراية بذهن حر، متحرر، متيقظ للأفضل.
الإسلام السياسي وإسلام السياسة
بيّن صاحب مقولة الدين أفيون الشعوب أن السياسة ليست إلا تجلّيا مدنيا للدين؛ باسمها مثلا يضحّي المواطن، رغبة أو قسرا، بكل نفيس لديه عند الحروب التي تشعلها مصالح فئة في الحكم؛ فأي فرق بين هذه التضحية وموت من يدّعي الشهادة لأجل دينه، فيقتل الناس ويموت باسم دين هو في الحقيقة إحياء الموات ونشر السلام؟
قلنا إن السياسة ليست غريبة على الإسلام منذ نشأته، فهي منه وفيه بالمعنى الأصيل للسياسة، كما يتجلّى ذلك في الإسلام المكي الأول، أي أنها مدنية الحياة اليومية. غير أن صفة الإسلام المكية هذه، المكينة عند بدايته، تلاشت لمّا طغت عليه السياسة، بداية من فتح مكة مع تسلّط قبيلة قريش على الدين تدريجيا إلى أن فرضت سلطة فرعها الأقوى، أي السلالة الأموية، على رقاب المسلمين. كان ذلك مع خلافة عثمان بن عفان، ثم توطد مع معاوية بن أبي سفيان حين أصبح الحكم بالدولة الإسلامية عضوضا، مما أحكم تماما احتلال الذهن الإسلامي.
هذا هو الإسلام الذي يطغى اليوم ببلادنا، لا الإسلام السياسي بالمعنى المدني، حيث لا خلط بين المجال المدني والديني، بما أن الدين لا يهم إلا الحياة الخصوصية، لا دخل لأحد فيها، بينما لا دخل للدين في الحياة العامة. فليس لنا إذن ببلادنا لا الإسلام الصحيح ولا الإسلام السياسي، بل هو الإسلام الذي يُستغل سياسيا، أي جاهلية جديدة؛ إنه الإسلام الدعيّ، المحتل المقيت للذهن الإسلامي، يمنعه من الإبداع كما فعل عند أوج حضارته. فمن يسعى لمنع المسلم من الإبداع مجدّدا؟
* ديبلوماسي سابق و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حديث الجمعة: تونس بين مطرقة الإرهاب الذهني وسندان الغضب الشعبي
حديث الجمعة: تونس 2019 أو القطع مع الماضي ورفع رهان العالم المتغيّر
شارك رأيك