لا يمكن إنقاذ مسار الانتقال الديمقراطي بدون تحييد هيئة الإنتخابات واسترجاعها استقلاليتها فهي الوحيدة القادرة على إتخاذ قرار تسجيل ما تبقى من الناخبين التونسيين واستكمال تركيبة الجسم الإنتخابي التونسي وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في النظام الجديد وتدعيم شرعيته.
بقلم سامي بن سلامة *
لا يعلم المواطن التونسي العادي بأن الأوزان الإنتخابية الذي تحضى بها بعض الأحزاب السياسية في مخيلته وبناء على إدراكه المشوّه للواقع السياسي والإنتخابي في تونس لا تمت للواقع بصلة وبأن ما يصور له أو يفهمه حول الموضوع لا يمثل الحقيقة بل هو بعيد كل البعد عنها.
والمواطن التونسي لا يتساءل عن حقيقة تمثيلية من يتحكمون في السلطة في تونس اليوم وربما لا يهمه الأمر، مع أن الموضوع مهم إذ يمس أسس مسار الإنتقال الديمقراطي ويلقي حوله ظلالا كثيفة من الشك. إذ لا يمكن تصور الإنخراط في مسار بناء ديمقراطية بغياب المشاركة الشعبية الواسعة وإلا فإن العملية لن تعدو أن تكون انحرافا بالعملية السياسية برمتها من قبل أقلية متمكنة لم تفوضها الأغلبية الساحقة من المواطنين فتفقد بذلك شرعيتها ومشروعيتها في آن.
عملية إنتخابية يقصى منها قرابة أربعة ملايين مواطن تونسي
تطرح مسألة التمثيلية أحد أخطر المواضيع المسكوت عنها وهو موضوع ”شرعية“ النظام السياسي الحالي و”شرعية“ من يحكم وكذلك من يعارض وبالتالي ”شرعية“ التوجهات والقرارات. وهي تطرح كذلك مسألة على غاية من الأهمية وهي مسألة نزاهة ومصداقية العملية الانتخابية برمتها.
فعملية يقصى منها قرابة أربعة ملايين مواطن تونسي يُرفض إلى اليوم تضمين أسمائهم بسجل الناخبين ويقاطعها في كل محطة انتخابية عدد مهول من الناخبين المسجلين بالقائمات الانتخابية ولا تشارك فيها سوى نسبة ضئيلة منهم، لا يمكن أن تعتبر عملية نزيهة ذات مصداقية مهما كانت الضمانات التي يدعي البعض توفرها.
إن اتخاذ ”أقلية“ حاكمة باسم ”أقلية“ ناخبة لقرارات مصيرية باسم عموم الشعب وهي قرارات تؤثر على مستقبله وعلى مصير البلد برمته قد يجر البلد في حالة رفضها أو الاعتراض عليها من قبل ”الأغلبية“ المقصية إلى احتجاجات شعبية وبوسائل عنيفة أحيانا.
قد يفسر ذلك تعاظم نسب عدم الرضاء على الأوضاع عامة وتعاظم مخاطر ارتفاع وتيرة الإحتجاجات الشعبية مع تتالي الأزمات السياسية وتفاقمها في تونس اليوم.
إذ لم تستوعب عملية الإنتقال الديمقراطي أغلبية معتبرة من المواطنين التونسيين ولم يُسمح لهم بالمشاركة فيها أساسا، إذ تم إقصائهم نهائيا منها بتواصل إقصائهم المتعمد من سجل الناخبين ولا توجد أية نوايا حاليا بالتوجه لهم وتسجيلهم واستيعابهم صلب العملية الديمقراطية.
يعرّض ذلك المسار بكامله لمخاطر جمة تنضاف إلى تلك الناتجة عن الإنحراف به وعن سوء الإدارة والممارسات السياسية الشنيعة كالسياحة الحزبية والسياسية وافتقار الحكم والمعارضة للحلول والتي تزيد من إمتعاض المواطنين مما يعيشونه من تردّ شامل وعام على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
لا يمكننا الحديث جديا عن تأثير القائمات المستقلة التي فازت في انتخابات سنة 2018 البلدية على المشهد والتي كسرت هيمنة الأحزاب السياسية باعتبار إقتصار تأثيرها على المحليات وانعدام العلاقة بينها وعدم بروزها وتوحدها تحت راية واحدة أو برنامج واحد على المستوى الوطني.
مشهد سياسي مشوه لا يتمتع بالتمثيلية الشعبية
إذ بقي المشهد السياسي التونسي مسيطر عليه عموما من قبل تيارين رئيسيين منذ انتخابات سنة 2014 التشريعية والرئاسية، الأول يمثله حزب حركة النهضة الموحّد والمتحكم في تفاصيل العملية السياسية والثاني يمثله حزب نداء تونس المشتت المتحالف/المتخاصم معه والمنشطر إلى شطرين والذي تجسّم مشاركته في المشهد السياسي كتلتان نيابيتان وهما كتلة النداء وكتلة الإئتلاف الوطني.
وهو يبقى مشهدا سياسيا مشوها لا يتمتع بالتمثيلية الشعبية، إذ أنه وبسبب عدم السماح باستئناف عمليات تسجيل الناخبين بطريقة جدية وفعالة كتلك التي تمت مباشرة قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، فإن سيطرة التياران المذكوران وطنيا على المشهد السياسي والانتخابي التونسي ليست سوى سيطرة مجرد أقلية منظمة ومهيمنة على الأغلبية.
فلدينا حاليا تقريبا 5 ملايين و369 ألف ناخب مسجلين بسجل الناخبين في الدوائر الإنتخابية داخل الجمهورية تم تسجيل 5 ملايين منهم تقريبا سنة 2011. ورغم صرف ميزانيات ضخمة جدا لم يتم للأسف تسجيل عدد معتبر من الناخبين الإضافيين منذ فرض حزب حركة النهضة إحداث هيئة الانتخابات الجديدة سنة 2014.
إذ بقي 4 ملايين مواطن تونسي غير مسجلين بسجل الناخبين ويمنعون من حقهم الدستوري في التصويت والترشح رغم ”مسرحيات“ التسجيل المتتالية منذ سنة 2014 التي لم تسفر عن تحقيق تقدم يذكر يوسع من نسب المشاركة في العملية السياسية ويمنحها شرعية أكبر.
حزب حركة النهضة يقرر مصير مسار الانتقال الديمقراطي
وعلاوة على الأصوات الضائعة مع كل موعد انتخابي وهي تلك التي لا تترجم إلى مقاعد في المجالس المنتخبة وقد بلغت مليونا و300 ألف صوت تقريبا في انتخابات سنة 2011 و600 ألف صوت تقريبا في إنتخابات سنة 2014، فإننا نشهد انخفاضا كبيرا في نسب المشاركة الشعبية مع كل إنتخابات جديدة مما أثر سلبا على تمثيلية مختلف الأحزاب المنخفضة بطبعا والتي تبدو لنا في تراجع مستمر.
يقرر حزب حركة النهضة مصير مسار الإنتقال الديمقراطي رغم أنه لا يمثل في الواقع سوى 6 أو 7% على أقصى تقدير من عدد الناخبين التونسيين المحتملين الذي يبلغ عددهم 9 ملايين ناخب تقريبا. وكان الحزب بعد انتخابات 2014 يمثل 12% منهم تقريبا منهم بعد أن كان يمثل بعد انتخابات 2011 ما يقارب 17%.
وذلك الحزب لا يتجاوز وزنه انتخابيا 5% كحد أقصى من مجموع المواطنين التونسيين الذي بلغ حدود 12 مليون نسمة إذا بنينا على نتائجه في إنتخابات سنة 2018. وهو وزن لم يكن يتجاوز 12.5% من عدد المواطنين التونسيين في أوج انتصاره سنة 2011 وتراجع إلى تقريبا 8 % بعد انتخابات سنة 2014.
أما حزب نداء تونس فلا يمثل سوى 3% من المواطنين التونسيين حاليا بناء على نتائجه في الإنتخابات البلدية الأخيرة.
يعني ذلك أن من يمثلون 8% فقط من المواطنين التونسيين يتحكمون في رقاب 12 مليون تونسي ويحددون مصيرهم.
وما سبق يبين أهمية عدم تسجيل الناخبين بالنسبة للحزبين المذكورين وأهمية السيطرة على هيئة الانتخابات من قبل حزب حركة واخضاعها لكي لا تسجل مزيدا من الناخبين وتحافظ على خارطة إنتخابية مشوهة تمكن من فرض ديمومة سيطرة الأقليات على الوضع السياسي التونسي.
ويبين كذلك أهمية الصراع الذي خضناه منذ أواخر سنة 2011 لإنقاذ الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات والحفاظ على استقلاليتها ويوضح الأسباب الحقيقية الذي دفعت حزب الحركة للإعتداء عليها وافتكاكها واختراقها ومصادرة استقلاليتها وحرية قرارها بعد أن خسرنا المعركة التي خضناها لوحدنا ضدها إذ تخلى عنا المجتمع المدني وانقلبت علينا جميع الأحزاب حينها.
فقد قررنا إثر انتهاء انتخابات 23 أكتوبر 2011 استئناف عملية تسجيل الناخبين، فما كان من حزب الحركة إلا أن شن حربا ضروسا ضدنا ولفق لنا الإتهامات وافتك المقرات ومنع الميزانيات وانخرط في حملة شيطنة جنونية هدفها انهاء الهيئة الانتخابية المستقلة الأولى وإحداث هيئة جديدة ضعيفة وموالية.
في ضرورة تكريس استقلالية هيئة الإنتخابات
إن مسألة الهيئة مسألة استراتيجية وهي حجر الزاوية في مسار الانتقال الديمقراطي وتهم جميع التونسيين ووهي تهم بدرجة أكبر تلك الأقلية من الشعب التونسي التي سمح لها بالمشاركة في العملية السياسية وبانتخاب ممثلين عنها للدفاع كما تعتقد عن مصالحها. ولا يمكنها أن تبقى مكتوفة الأيدي لتشاهد من انتخبتهم كممثلين عنها ينخرطون في كل مرة في صفقات جديدة مع حزب الحركة حول الهيئة بدعوى حل أزماتها وهي أزمات مفتعلة في غالبها هدفها تحقيق غايات محددة بدون أن يفقهوا من المسألة شيئا.
لا يمكن انقاذ مسار الانتقال الديمقراطي بدون تحييد هيئة الانتخابات واسترجاعها استقلاليتها فهي الوحيدة القادرة على اتخاذ قرار تسجيل ما تبقى من الناخبين التونسيين واستكمال تركيبة الجسم الانتخابي التونسي وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في النظام الجديد وتدعيم شرعيته.
خلافا لذلك ستبقى الطبقة السياسية تطرح على نفسها دوما نفس السؤال العجيب: ”لماذا يفعل الشعب ذلك ونحن في نظام ديمقراطي يتيح للجميع المشاركة في اتخاذ القرار؟“ مع كل أزمة جديدة ومع كل احتجاج شعبي وكلما وجدت نفسها محاصرة. ولن تفهم مطلقا بأن الأغلبية مقصية تماما من المشاركة وهي أو جزء منها لا تختار النزول إلى الشارع ولا التصرف بعنف إلا لانعدام الوسائل الديمقراطية التي تحاسب بها النخبة السياسية وتعبر من خلالها عن رفضها لها وغضبها منها.
* عضو سابق بالهيئة العليا المستقلة للإنتخابات.
مقال لنفس الكاتب بأنباء تونس :
الإنتخابات الرئاسية 2019: دور ثان محتمل بين المنصف المرزوقي و عبير موسي…
شارك رأيك