يتحول التنافس على البرامج والأفكار في العلوم السياسية أكثر فأكثر إلى ممارسات التسويق السياسي والتي أصبحت الرافعة الأساسية في النجاح وتصدر نتائج سبر الآراء، بقطع النظر على الأسس الفكرية والمحورية أو الرؤية التي يتبناها هذا الحزب أو ذاك.
بقلم العربي السوسي
خبير التسويق السياسي
كان صعود ماكرون إلى رئاسة فرنسا بوابة جديدة تنفتح أمام المتطلعين إلى النجاح السريع والمبهر في حلبة التنافس والصراع السياسي حيث أثبت هذا الأخير كيف يمكن سحق منافسيه من الأحزاب الكبرى مستعملا القدرة الكبيرة على الترويج والتسويق لصورته وشعاراته، جالبا وراءه أصوات وناخبين يئسوا من النخب الحاكمة ذات الإخفاقات المتكررة.
كما كان الشأن أيضا للرئيس الأمريكي الذي قاد حملة غير معتادة على منافسين يعتبرون من محترفي السياسة الأول ومدارس كبرى في اللعبة السياسية في أمريكا. ولكن ترامب أرغم جميع منتقديه قبل منافسين على اللعب حسب قواعده هو، وفرض أجندته الانتخابية رغم التحديات التي كانت تعوقه خاصة انحياز الإعلام الأمريكي ضده. ولكنه كان شرسا وذكيا ومبتكرا في حملته محولا عوامل ضعفه إلى نقاط هجوم، مستعملا لغة أقرب إلى الشارع الأمريكي، بقوة وشراسة أحرجت الطيف المقابل وأربكته ووضعته في زاوية يعجز فيها عن مجارات ترامب.
جملة هذه المؤشرات وغيرها في العالم الديمقراطي أحدثت تغيرات كبرى في التعاطي مع الشأن السياسي وتوجيه الرأي العام وجلب المؤيدين أو حتى أساليب التمويه والخدع التسويقية السياسية والتي أصبحت أكثر سهولة وتداول من خلال استعمال الفضاء الافتراضي وتقنيات الملتيمديا من صور مخادعة وفيديوهات مركبة.
هذه الممارسات لا يعدمها أي حزب في تونس، بعضها يدخل ضمن آليات التنازع السياسي والاخر ضمن خطط انتهازية أو تدميرية حتى.
ليس حديثنا في هذا المقال هو تقييم الممارسات الإعلامية والاتصالية لمختل المتنافسين السياسيين، ولكن هي أسئلة أعتقد أنه مهم جدا بالنسبة للمتابعين للمشاريع السياسية المطروحة على الساحة التونسية محاولة فهم هذا الفاعل الجديد “حركة تحيا تونس”. فهل كان خروجهم الاتصالي ناجحا ؟ وبأي قدر؟ هل عرفوا كيف يسوقون لأنفسهم ومن خلال أية مفاهيم؟ هل تمكنوا فعلا من إخراج علامة سياسية جديدة سوف تفرض موقعها على الناخب وعلى الطيف السياسي بأكمله؟.
أسوق بعض الملاحظات في هذا المجال، أولا من الناحية النظرية. حيث لا يخلو برنامج تسويق لعلامة جديدة في عالم السياسة من عناصر مكونة لا بد أن تتوفر فيه وهي، الاسم والقيادة والوسم أو الصورة بصفة عامة. كل هذه العوامل مجتمعة تشكل المركب الأساسي لتكوين بضاعة سياسية تعرض لجمهور بعينه من الناخبين والمتعاطفين والموالين يتم تحديدها منذ البداية بشكل تفصيلي ودقيق، مثل سوق العرض والطلب، وتتشكل من خلالها الهوية الحزبية وأولويات الحزب وأطروحاته.
ثانيا من الناحية الواقعية، يتضح لكل المتابعين أن “حركة تحيا تونس” يتكون جمهورها الأساسي من ناخبي نداء تونس وهي الشريحة الأوسع على الأقل نظريا. جمهور يتنافس عليه العديد من رافعي شعار الدولة الحديثة والبورقيبية والوسطية وعلى رأسهم طبعا نداء تونس. ولذلك كان من المنتظر أن نرى في سامة وصورة واسم هذا الحزب نفس المؤشرات التي تطبعت نداء تونس ولكن في نسخة أو محاولة جديدة تتجاوز أخطاء الحزب الأول حسب مؤسسي الحزب الجديد.
لنتوقف عند هذا المؤشر الهام الذي يحدد حقيقة الهوية السياسية والعلامة التسويقية التي يريد من خلالها مؤسسو الحزب تحقيق جملة من الأهداف أولها التموقع في الخارطة السياسية مكان الحزب القديم.
ولكن عمليا الأمر ليس بالهين لأنه يشترط إرسال إشارتين متعارضتين وبنفس القوة في شكل متناغم وجذاب. الإشارة الأولى هي الإبقاء على نفس الهوية التي تأسس عليها نداء تونس، هوية تحت المضلة الدستورية تؤصل لنفسها في الإرث البورقيبي وتعيد تشكيل حركة لا تنحصر فقط في إطار جلب وإعادة تفعيل التجمعيين.
والإشارة القوية الثانية هي بناء حزب على أسس “سليمة” من خلال تمشي ديمقراطي متين يتساوى فيه المنخرطون ويشكلون قياداتهم عبر مؤسسات شرعية. ولئن لاحظنا التموقع الواضح لهذه الحركة كبديل عن نداء تونس يبقى السؤال مطروحا حول تمكنه من بناء كيان سياسي جديد مبني على أسس ديمقراطية صحيحة ترضى بها كل الأطراف المنتسبة له.
إن عملية التجديد تتطلب الجرأة ومصداقية الفعل حتى تتسلح بقوة الإقناع وتفرض أسلوبها السليم والتصحيحي الجاد. هذا التحدي أمام يوسف الشاهد ومن حوله أمام روزنامة دقيقة وصعبة وليس فيها وقت كثير يسمح بالتجربة.
ونعود لقراءة الخروج الأول لهذا الحزب من الناحية التسويقية وما جابهه من موجة رفض لاختياره اسم “تحيا تونس” اسم استفز العديد من قادة الرأي الذين اعتبروه “سطوا على علامة مسجلة” يمتلكها كل مواطن تونسي ويهتف بها الجندي كما يهتف بها الرياضي والمواطن العادي. فهل من حق هذه المجموعة احتكار هذا الاسم ؟ وهنا نعود إلى هوية الحزب الجديدة وسيمته الخاصة special brand والإشارات الأولى التي تقدم بها إلى الناس، فتظهر لنا بالكاشف صعوبة إقناع المتابعين أن أخطاء الماضي قد انتهت وهؤلاء سيبنون صرحا ديمقراطيا لا يشقه غبار.
فبمجرد الكشف عن الاسم توقف العديد عن فكرة “السطو” على علامة وطنية وعادت الذاكرة القريبة لأخطاء الحزب الأول “النداء”. وهذا ما يؤكد أن خيار تأسيس الحزب لن يمر بسهولة حتى يقنع بما سيعرضه. وان تسلح ببعض الأسماء الهامة خاصة تحت قيادة رئيس الحكومة وما يملكه من قوة جذب وحسن استثمار لشعبيته المتزايدة.
وحدها لحد الآن صورة يوسف الشاهد تشكل الداعم الرئيسي والرافعة لعلامة الحزب مثلما كانت صورة الباجي قائد السبسي عند تأسيس النداء مع اختلاف المنطلقات. ولكن، لأي مدى يمكن أن تصمد صورة الشاهد لوحدها ؟ وما هي الطرق التي يجب على الحزب أن يتبع حتى ينحت صورة قوية ولا يستنسخ تجربة قديمة وأحادية الصورة فيناقض مع شعاراته المرفوعة ويعيد أخطاء الماضي.
لا يمكن بحال من الأحول صناعة علامة سياسية لحزب يحملها شخص واحد، فعلامة الحزب وصورته تعبر عنها المجموعة وليس شخص تتقاسم نفس القيم والرؤى والتحاليل. إلا إذا استثنينا في حملات الانتخابات الرئاسية أين تتلخص العلامة في المترشح للرئاسة.
ربما يسهل في البداية التركيز على العلامة الشخصية لرئيس الحكومة في دفع الحزب إلى الأمام وسبغه بجملة من القيم اشتغل عليها الشاهد في حكومته كالحرب على الفساد وهيبة الدولة وتشبيب القيادة السياسية بوسائل ديمقراطية.
في الأخير سيجد هذا التمشى أمامه تحديات كبيرة تعيده إلى المربع الأول وهو شخصنة الحياة السياسية في تونس.
شارك رأيك