عندما غادر حمادي الجبالي مرغما قصر الحكومة بالقصبة مرغما، في مارس 2013، أصبح متشنجا وفائر الأعصاب إلى حد التوتر، ينهشه الألم المربك وتعتصر وجهه المرارة والحسرة، وكأنه كان يعتقد في أزلية بقائه على كرسي الجاه والنفوذ. وها هو اليوم هادىء البال يحلم بالعودة إلى كرسي الجاه من بوابة قصر قرطاج…
بقلم مصطفى عطية *
تعودنا خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ الرابع عشر من جانفي 2011، على مشاهد مسرحية تتفتق فيها “قرائح” المغادرين لكراسي السلطة والوجاهة والنفوذ، فتصبح تصريحاتهم نارية ومحملة بكل المواصفات التي كانوا يفتقدونها زمن تحملهم للمسؤوليات العليا، كالجرأة والذكاء والحكمة وسرعة البديهة وقوة الحجة والشدة في رد الفعل. فبعد صمت وٱنزواء وتقوقع وٱنكماش، يطول في أغلب الأحيان على إمتداد مدة التكليف بالمسؤولية، يخرج هؤلاء، يوم المغادرة، من دهاليز صمتهم وترددهم وٱرتباكهم ليضرموا النيران بتصريحاتهم الإستفزازية، وكأن الخروج، في إطار التداول على السلطة، يعطيهم شرعية الإنقلاب على أنفسهم، في حين أن القوانين المعمول بها والقيم الأخلاقية تفرض على المغادرين لمواقع النفوذ الإلتزام بواجب التحفظ.
ستندمون على رحيلي !!!
تكررت مثل هذه المشاهد أكثر من مرة ومازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ بالتصريحات المتشنجة لمحمد المنصف المرزوقي وحمادي الجبالي وعلي العريض ومهدي جمعة وعدنان منصر وخالد شوكات وغيرهم عند مغادرتهم لبوابتي القصر الرئاسي بقرطاج وقصر الحكومة بالقصبة.
كان منصف المرزوقي أكثرهم صخبا وٱنسياقا في متاهات الشعبوية وهو صاحب القولة المأثورة “ستندمون على رحيلي”!!! ولم يكن حمادي الجبالي أقل منه هيجانا عند مغادرته كرسي رئاسة الحكومة فمن يومها وهو حريص على إطلاق التصريحات الإستفزازية وٱتخاذ المواقف ضد كل المسؤولين معيبا عليهم عدم إتخاذ الإجراءات اللازمة في مسائل نسي أنه تعامل معها بنفس الأسلوب! أما علي العريض فبعد بداية، خارج السلطة، لا تختلف كثيرا عن بداية حمادي الجبالي الصاخبة، تراجع إلى الوراء وتدثر بالصمت، بقي أن أكثر الأمثلة إنغماسا في هذه الأوحال، بعد المرزوقي، هو حمادي الجبالي بعد إقالته من رئاسة الحكومة ثم خروجه من حركة النهضة.
كان الإعتقاد السائد في بداية الأمر هو أن حمادي الجبالي سيحلق خارج سرب أسلافه الذين ذكرناهم ٱنفا ولن يسقط في فخ ردود الفعل المشحونة بٱلام مغادرة كراسي السلطة لٱعتبارات موضوعية عديدة، منها بالخصوص ظاهره الهادئ الذي تعود به الناس منذ إعتلائه سدة رئاسة الحكومة، وجنوحه الدائم إلى التهدئة حتى عندما لا يتطلب الأمر ذلك، بل ومبالغته في هذا السلوك الذي أصبح بمثابة نقطة ضعفه الأساسية، إضافة إلى أنه قليل الكلام وعديم الفصاحة !!!
هل يراهن حمادي الجبالي على قصر ذاكرة الشعب ؟
لكن كل هذه التقديرات سقطت، فجأة، في الماء ليظهر في ثوب آخر، مخالف تماما للذي عود به التونسيين طيلة مكوثه في قصر الحكومة بالقصبة! أصبح الرجل متشنجا وفائر الأعصاب إلى حد التوتر، ينهشه الألم المربك وتعتصر وجهه المرارة والحسرة، وكأنه كان يعتقد في أزلية بقائه على كرسي الجاه والنفوذ وتناسى أنه حل في ذاك الموقع في ظروف غير عادية، زالت بزوال أسبابها.
لقد ترك حمادي الجبالي تردده وٱرتباكه وصمته وجنوحه التلقائي إلى التراجع وحرصه على دس رأسه في الرمال، طمعا في مرور العاصفة، وكل تلك الصفات السيئة التي التصقت بصورته لدى الناس، وٱرتدى جبة الجريء والشجاع والصاخب والرافض لكل شيء والمعارض لجميع السياسات والمشكك في كل الإختيارات وذلك عبر التصريحات الإعلامية الملتهبة والصادمة كالحديث التلفزي الأخير الذي ضمنه “دروسا” لم يكن مؤهلا لإعطائها، خاصة وأن فترة رئاسته للحكومة كانت ملوثة بعدم الإستقرار وتفاقم الفساد والمظالم والإنتهاكات والإغتيالات والإرهاب والتعدي على سيادة البلاد والتفريط في مصالحها.
قد يكون حمادي الجبالي يراهن على قصر ذاكرة الشعب، لكنه نسي أن حبل الزيف قصير.
من المؤسف أن االعديد من المسؤولين إختاروا الخروج من باب الإستفزاز الضيق وهي وصمة ستلاحقهم في حلهم وترحالهم كما لاحقت وتلاحق الكثيرين من أمثالهم الذين سقطوا في فخ تفاعلاتهم الذاتية وكشفوا عن رغباتهم الجامحة في التمسك بالكراسي وٱمتيازاتها المعنوية والمادية.
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس:
للتأمل فقط : يحدث في حركة النهضة، راشد الغنوشي في مواجهة حادة مع “أبنائه” المتمردين !
للتأمل فقط : قائد السبسي يلتحق بالمرزوقي وبن جعفر في الحرب على النهضة التي غدرت بهم !
للتأمل فقط : وزراء الإتصال الفلكلوري من “زيت الزيتون ليس من تقاليدنا” إلى”جثث في حالة وفاة”
شارك رأيك