هل يقوم حزب النهضة الإسلامي الذي يرأسه راشد الغنوشي و حزب العمال الماركسي الذي يقوده حمة الهمامي بالمراجعات الفكرية والسياسية التي تفرضها التحولات الجذرية في العالم قبل فوات الأوان، فالعصر لم يعد يقبل بكل ما هو عصبية دينية وعرقية وإيديولوجية ؟
* بقلم مصطفى عطية *
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: “الحية التي لا تغير جلدها تموت وكذلك هم البشر الذين لا يغيرون أفكارهم يهلكون” بمعنى أن الأفكار والآراء والإختيارات وحتى القناعات تتجدد وتتطور وتتغير بمرور الزمن وقد تحدث “إنقلابات” جذرية في المواقف والإنتماءات الإيديولوجية والسياسية لدى العديد من الذين يوصفون بالمتشددين والمتعصبين، فالمفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي كان ماركسيا متشددا ثم إعتنق الإسلام وأصبح من أشهر دعاته وعلمائه ومروجي تعاليمه، وعاش الباحث المغربي المرحوم محمد عابد الجابري طيلة شبابه وكهولته شيوعيا متشبثا بالجدلية المادية ثم تحول في بداية شيخوخته إلى أحد أهم دعاة النهضة على أسس إسلامية عقلانية، ويؤكد المفكر الإسلامي المصري محمد عمارة في كتابه “نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام” أن الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، الصادر في عشرينات القرن الماضي والذي أثار زوبعة فكرية ودينية وسياسية لتضمنه دعوة صريحة إلى الفصل بين الدين والدولة وتطوير بعض المفاهيم لتواكب العصر، قد تراجع، قبل وفاته، عن مواقفه الثورية العاصفة وٱنهمك في إعداد كتاب ينسف فيه كل أفكاره ومواقفه السابقة ولكن المنية لم تمهله لإتمامه ونشره!
في خضم التحولات العالمية الجذرية المتسارعة
أردت التذكير بمثل هذه الحقائق، في خضم ما يتردد عن “المراجعات” التي تنوي حركة النهضة الإسلامية القيام بها لتصبح حزبا مدنيا معترفا به خارجيا تحديدا، خاصة وأن الساحة الدولية بدأت تتشكل على إيقاع توازنات جديدة، ستقطع حتما مع ما كان سائدا خلال عدة عقود من جهة ومع سياسات “الفوضى الخلاقة” التي جاءت ب “ربيع عربي” سرعان ما تحول إلى خريف عاصف.
مع صعود اليميني الشعبوي والإنجيلي دونالد ترومب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وإعلانه الحرب على ما وصفه ب” الإسلام الراديكالي المتطرف” وٱعتزامه الجدي تصنيف تنظيم الإخوان المسلمين “إرهابيا”، وٱستعادة روسيا لنفوذها المدعوم من الكنيسة الأرثودوكسية وبداية تفتت أوروبا اللائكية، وبروز تيارين جطيرين هما العنصرية والإرهاب، الأول كنزعة إستعمارية جديدة تكرس عقيدة التفوق الغربي والحضارة اليهودية-المسيحية، والثاني كرد فعل عنيف عليها.
وفي خضم هذه التحولات الجذرية المتسارعة بدا وكأن العالم عاد إلى الأوضاع التي كانت سائدة، قبل الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد سقوط الأمبراطورية العثمانية وتفاقم تداعيات الأزمة الإقتصادية العالمية. إن هذه التحولات المتواترة على نسق عاصف غيرت كل المعادلات وفرضت مراجعات حتمية عاجلة على التيارات السياسية الكلاسيكية كالأحزاب العقائدية والحركات الإيدولوجية النمطية والشمولية.
مراجعات حركة النهضة الإسلامية لٱتقاء شر العواصف
من هذا المنظور فإن المراجعات التي تنوي حركة النهضة الإسلامية القيام بها ليست إختيارا تلقائيا وإنما هي من تلك الخيارات المفروضة فرضا حتى لا نقول المنزلة تنزيلا، وهي الحقيقة التي لم يدركها المتشددون في صلب الحركة والذين ذهب بهم تعصبهم إلى حد الوهم بأنهم قادرون على الصمود أمام كل التحولات التي يشهدها العالم.
لا يكفي أن تعلن حركة النهضة تحولها إلى حزب مدني وفصلها للسياسي عن الدعوي وإنهاء إرتباطها بالإسلام السياسي وتنصلها من الإنتماء لتنظيم الإخوان المسلمين، لٱتقاء شر العواصف، بل لا بد لها أن تبرهن عن ذلك عمليا من خلال تغيير ميثاقها المؤسس، وتطوير خطابها جذريا وٱتخاذ إجراءات تطبيقية فاعلة تبدد الإلتباس الحاصل إلى حد الآن في شأنها داخليا وخارجيا.
يخطئ من يعتقد أن ” المراجعات الملزمة” تهم حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية دون سواها من التنظيمات الأخرى ذات الإيديولوجيات المحنطة، فكل الأحزاب الأخرى الماركسية والبعثية والقومية بالخصوص، أي المشدودة إلى مرجعيات شمولية وأحادية معنية بهذه المراجعات، كما حزب العمال الماركسي الذي يقوده حمة الهمامي منذ ثلاثة عقود، وما عليها إلا التحرك قبل فوات الأوان، فالعصر لم يعد يقبل بكل ما هو عصبية دينية وعرقية وإيديولوجية.
لا شك أن هذه المراجعات الملزمة ستحدث زلزالا في الخارطة السياسية في بلادنا، وستعيد، تبعا لذلك، رسم ملامح جديدة للساحة السياسية، تكون منسجمة مع التحولات في العالم، وهي مرحلة ليست باليسيرة إطلاقا خاصة بالنسبة للديمقراطيات الناشئة والهشة كديمقراطيتنا التي لم تتجاوز، بعد، مرحلة الدربة.
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : الحكم “العائلي والجهوي” من البايات وبورقيبة إلى الباجي والغنوشي !
للتأمل فقط : سليم الرياحي أو السقوط الدرامي لرجل “مزروب” إستهواه اللعب بالنار !
للتأمل فقط : فضيحة المدرسة القرآنية بالرڨاب تعيد للأذهان قولة عبد الفتاح مورو لوجدي غنيم !
شارك رأيك