تجديد التعليم الزيتوني المتكلس كان مطلب شيوخ جامع الزيتونة حتى قبل الإستقلال.
كثر الجدل هذه الأيّام إثر اكتشاف “البُؤرة الطالبانية” في الرقاب بين من يعتبر وجود “حرب على الإسلام والقرآن” وما يستتبع ذلك من إمكانية شنّ حملة على كلّ ما يرمز إليهما بصلة، وبين من ينظر إلى أنّ هذا القول هو استدرار للعواطف وتجييش لها واستغلال فزّاعة محاربة الدين من أجل التنصّل عن الموضوع الأصل والمتعلّق بهذه الظاهرة “الطالبانية” التي تزحف على مهل وفي صمت والإنتهاكات التي ارتكبت فيها بحق الطفولة البريئة.
بقلم خالد عبيد *
في خضمّ هذا الجدل العبثي، أثارني تكرار البعض عن جهْل بأنّ دولة الإستقلال وبورقيبة تحْديدا أنْهى التعليم في جامع الزيتونة بجرّة قلم، وما يستتْبع هذا التجنّي الخاطئ من أحكام خاطئة ومُجانبة للواقع والحقيقة وُجوبًا.
البدْء، كان بوهمٍ تخيّله البعض آنذاك في أواسط الخمسينات من القرن العشرين وهو الذي يكنّ عداوة “جِينِية” للحبيب بورقيبة، ولم يكن مستوْعبا آنذاك ولا الآن ما معنى أن تؤسّس دولة وكيانا موحّدا من العَدَم – التشتت الذي كان يعيشه التونسي وقتها، والمؤسف أنّه رجع إليه الآن، فكان وقتها الحرص على توحيد كلّ ما يمكن أن يساهم في نحْت هذا الكيان وإنهاء هذا العبث، أي الشتات، فكان توحيد التعليم والقضاء… وتونسة الإدارات وهيكلتها ومرْكزتها…
ولا يدري هذا البعض وهو يردّد هذا الوهم الخاطئ بأنّ شيوخ الزيتونة وطلبتها هم الذين قرّروا إنهاء التعليم في جامع الزيتونة بالطريقة التي يريد البعض الآن إرجاعها، وذلك منذ ما قبل الاستقلال، وقد بنوْا للغرض جامعة بكلّ مستلزماتها آنذاك كتجسيم حقيقي منهم لدعوات إصلاح التعليم الزيتوني بأن يكون مواكبا للعصر وشاملا لكلّ العلوم واللغات الضرورية.
ومع السنوات، سرعان ما أصبح هذا الوهْم حقيقةً لديه، يُعمّمها لِمَن يدور في فلَكِه ويتعنت في التمسّك بها وكأنّها أو هي فعلا الحقيقة المقدّسة، وفي الواقع، لا يمكنه أن يتنازل ويقبل بأنّه قد أخطأ وقتها وخاصّة الآن، وإن كنّا نفهم دوافع خطئه وقتها، لكن الآن لا يمكن له أن يعترف بذلك لأنّ كلّ المسار الذي “بناه” سابقا، إنطلاقا من هذا الوهْم، سينهار حتما، لذلك تحوّل هذا الوهْم والخلْط إلى حقيقة لديه هي في الواقع الكذبة الكبرى لأنّها لا وجود لها أصلا.
أُدرك أنّه ليس المجال هنا في مقال لديّ رغبة في أن لا يكون مطوّلا في الإفاضة في توضيح هذا الوهم الكاذب، لأنّ بعض الدوائر التي تنشر هذا الوهم، تُدرك ذلك، وعلى عِلْمٍ به – وأنا متيقن تماما من ذلك -، لكن ليس لها من حلّ إلاّ الهروب إلى الأمام والتلاعب بعقول أجيال تجهل ماضيها فتزرع فيها الحقد والكرْه، ومن زرع هذا سيحصده حتما يوْما ما.
هم بالتأكيد سمعوا بمطالبة طلبة جامع الزيتونة خلال الفترة الإستعمارية بضرورة إصلاح التعليم الزيتوني، والثابت أيضا أنّهم يعتبرون لجنة صوت الطالب الزيتوني رأْس حرْبَة هذه المطلبية في الفترات المتأخرة، بمثابة “جدّتهم الكبرى”.
لذلك، سأترك المجال إلى أحد هؤلاء الطلبة الزيتونيين المنضوين تحت لواء لجنة صوت الطالب الزيتوني، إنّه الصادق العبيدي، أطال الله في أنفاسه، الذي بيّن في مقال له عنوانه: “هذه الكتب الصُفْر: ضُمُّوها إلى الآثار”، موقفه من التعليم الذي يدرّس في جامع الزيتونة وقد صدر في صحيفة: “صوت الطالب الزيتوني”، عدد 13 بتاريخ 01-12-1950.
لنتمعّن جيّدا في هذه المقتطفات وقارنوها مليّا مع ما يدعوا إليه هؤلاء حاليا من ضرورة إرجاع التعليم الزيتوني والتباكي على أطْلال جامع الزيتونة الذي أغلقه بورقيبة في وهْمهم!
* * *
لماذا تريدون إكراه الزمن على الرجوع إلى الوراء؟
نعم، لقد آن لهذه الكتب ( التي يقع التدريس بها في جامع الزيتونة) أن تَرِيح وتسْتريح. لقد جاوزها الزمن في وثباته وقفزاته المتلاحقة وتخلّفت هي عن الركْب، إنّها عنوان لِزمن صَدَأت فيه العقول وغُلّفت…
نعم، لقد حلّ الوقت الذي يجب أن تُخْفى فيه هاته الكتب الصُفْر وتتخلّى للكتب البيض… إنّها أصبحت عبئا ثقيلا تجرّه أجيال الشباب على كُرْهٍ ونفْرَة وقد دقّت ساعته ووضع الأثقال من على ظهورنا…فأهدافنا اليوم تغاير تماما أهداف العصر الذي ألّفت له هذه الكتب الصُفْر، والقضايا التي تشغلها اليوم غير القضايا التي شغلتهم بالأمس، فلماذا تريدون إكراه الزمن على الرجوع إلى الوراء، وأنتم تعلمون أنّه جبّار سائر إلى الأمام قدما، ومن يبغي إيقاف عجلته الدائرة يطحنه، ويدوس جثته؟…
إنّ الزمن يؤثّر فينا ولا نؤثّر فيه ونحن تبعا لذلك خاضعون لتطوّراته وتقلّباته…ألا ترون أنّ كلّ ما لحق بنا من حيْف في دُنيا السياسة، في دُنيا العلم، في دنيا الرقي، في دنيا الحضارة كان منشؤه أنّنا أردنا استوقاف الزمن عن المسير وهو الذي لا يعرف الوقوف. فوقفنا نحن ومضى هو في سرعته لا يلْوي على شيء. فأين نحن إذن من زمننا؟ وأين زمننا منّا؟
أريحونا من هذه الكتب الصفر… لقد فاتتْها الأيّام بمراحل ألا تسمعون؟
على الرجال الذين يعيشون للماضي أن لا يتحكّموا في حظوظ الذين يريدون أن يعيشوا للحاضر فالأيّام لا تعكس دورتها وترجع بنا إلى عصر مضى وانقضى، أريحونا من هذه الكتب الصفر، أريحونا من عُسْرها ومشقّتها وشقْشقتها الفارغة وأساليبها المعكوسة، لقد فاتتها الأيّام بمراحل ألا تسمعون!…
ما هذا الحصار الفكري الذي تريد أن تضرب نطاقه كمْشة من الانْتفاعيين على عقول الأجيال الباسِمَة لِغَدِها الآملة فيه كلّ خير وهناء، بدعوى المحافظة والتمسّك، إنّنا نمانع بشدّة من جعلنا كبْش الضحيّة لأجل المحافظة المزعومة ثمّ ما هو الذي تريدون أن تحتفظوا به أيّها القوم؟ إنّه ثوْب بالٍ خَلْق رَثّ ليس في الإحتفاظ به إلاّ العار، أليس التأخّر عارا؟ تغيّر الناس واصْطَبغوا بألوان الزمن الذي يعيشون فيه وتبدّلت قيم الأشياء تبعا للحاجة إليها واختلف نظر الناس إلى العلوم تبعا لما تجلبه لهم من منْفعة أو تُدرّه عليهم من مَفْسدة إلاّ علوم جامع الزيتونة وكتب جامع الزيتونة فهي باقية تريد أن تشاركه – جلّ جلاله – في صفة هي من إختصاصه وحده.
يا قوم إنّ حياتنا أثمن من أن نضيّعها في سبيل العكوف عن آثار السلف، هذه الآثار الخاوية الميّتة!
* * *
هكذا كان حال التعليم في جامع الزيتونة! وهكذا كان تمرّد طلبة جامع الزيتونة عليه! وهكذا توهّم البعض عن جهل ومُكابرة بأنّ هذا التعليم هو الأصْل! فتوهّموا عن جهل أنّ إغلاقه هو من باب محاربة الإسلام! ! ولذلك طفِقوا يردّدون أنّ التطرّف الحالي والسابق سببه الأوِحد هو هذا الغلْق! بينما الأمر مختلف تماما عن وهْمهم وأعمق من ذلك بكثير فهل يعلمون؟ وإذا كان هذا هو التعليم الذي يبشروننا به؟ فلبِئْس التعليم هو!
* * *
على الرجال الذين يعيشون للماضي أن لا يتحكّموا في حظوظ الذين يريدون أن يعيشوا للحاضر فالأيّام لا تعكس دورتها وترجع بنا إلى عصر مضى وانقضى.
تغيّر الناس واصْطَبغوا بألوان الزمن الذي يعيشون فيه واختلف نظر الناس إلى العلوم تبعا لما تجلبه لهم من منْفعة أو تُدرّه عليهم من مَفْسدة إلاّ علوم جامع الزيتونة وكتب جامع الزيتونة فهي باقية تريد أن تشاركه – جلّ جلاله – في صفة هي من اختصاصه وحده.
يا قوم إنّ حياتنا أثمن من أن نضيّعها في سبيل العكوف عن آثار السلف، هذه الآثار الخاوية الميّتة.
* مؤرخ جامعي.
مقال لنفس الكاتب بأنباء تونس :
المدرسة ”القرآنية” بالرقاب : سيناريو “طلْبَنَة” أطفالنا خطر يتهدّد الأمن القومي في تونس!
شارك رأيك