مع ما وصلت إليه الحال في فهم الدين ببلادنا، إذ هو هذه الدمغجة المختصة في غسل الأدمغة السليمة بما يفسدها، لا بد من تجديد التذكرة في الإيمان الأصيل. فمن يدّعي في العلم معرفة يجعل اليوم من الإسلام دين الرعب والعنف والكراهية ويشينه بمسخ مسحته الإنسية لصفته كخاتم الأديان التوحيدية.
بقلم فرحات عثمان *
بُلي ببلادنا أهلُ الإسلام من النخب، أصحاب المسؤولية في إنارة العامة، ومنهم الفقهاء بالمعنى الأوسع، بخاصيات كلها عليهم لا لهم. أوِّلها فقد النية الصافية التي هي العمود الفقري للإيمان السليم؛ وثانيها التواضع في العلم، وهو خصلة الصغير لله، الفقير لربه، المؤمن المسالم؛ والثالثة الشغف بالتقليد، وهو الإختيار الرديء في دين ديدنه الإجتهاد؛ والرابعة الأخذ باللفظ دون روحه وبالحرف دون مقصده، وهذا الظلال المبين؛ والخامسة الذهاب مع المعنى الظاهر دون المعنى الباطن، وبالتالي فهم الدين ضد مقاصده، ولهو الضياع الثابت للإيمان الأصيل.
التونسي المسلم الأصيل
كل ذا، دون أدنى شك، دليل على ضعف عقيدة هؤلاء لفقدهم الأصالة فيها رغم تبجحهم بالمشيخة والإمامة، سلفية دينية كانت أو مدنية. ذلك أن التونسي المسلم الأصيل، بالحرص على إعطاء المثل الأفضل، بما أن سيّد القوم خادمهم، لا يكون أبدا، كما نعاين عند هؤلاء، طويل العنان في الشتم والذم، قصير الباع في الفطنة وفهم للأمور.
لقد بلغ من سخنة العين عند بعضهم أنهم لا يسكتوا عما لا يعرفون من أخلاقيات وأدبيات إلا كهوامل، غير عابئين بالشوامل التي تضمها لتجعل من الإختلاف إئتلافا؛ فإذا بهم يقلبون الدرة بعرة ويجعلون من البعر دررا ولآلي. لهذا وجدنا شعبنا، الذي تغنِّى بحبِّه حشاد، مقسٍّما شيعا، منقسما فرقا، يرفض بعضه بعضا، بينما لا قوّة له إلا بالكل متحدا، لا يرفض أيا كان من وحدته الصمِّاء وإتحاده للأفضل في عيش مشترك مسالم، لا تشوبه شائبة رفض الآخر المختلف.
إن القرآن إبريز كله كما يتضح في حسن فهمه حسب مقاصده؛ إلا أننا، لئن وقفنا عند “ويل للمصلين”، أفسدنا حتما فهمنا له وأضررنا به أفحش الضرر. فقد أشاد الله بالعدل وفرض الحرص عليه في نطاق التقوى الأصح التي مناطها القلب لا الجوارح، اعتمادا على الجهاد الوحيد الشرعي اليوم، الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس الأمّارة بالسوء. وها نحن تغاضينا عن ذلك، متنكرين له، متمسكين بجهاد أصغر ولّى وانقضى بانتهاء زمنه.
فلنقرع مدّعي الحكمة تكبّرا وغرورا
إن من ينتصر حقيقة للإيمان الإسلامي لا يفعل ذلك إلا إدعاء، ونأمل أن يكون عن حسن نية فتكون إساءتهم لدينهم عن غير قصد، إذ أنهم في أكثره على باطل وفي بعضه فقط على حق. فلنقرعهم بمثل فعلهم بأن نقول لهم كما قال مسكويه، صاحب ‘كتاب الأخلاق”، متوجها بالكلام لأبي حيان التوحيدي صاحب “الإمتاع والمؤانسة” في حوارهما بالهوامل والشوامل: “قد عرض لك فيها عارض من العجب وسانح من التيه، فخطرت خطران الفحل ومشيت العرضنة ومررت في خيلائك ومضيت على غلواك”.
ونضيف لعناية من يجرؤ على الكلام باسم ربّه من بين جميع الأطراف، أن العالم هو الجاهل؛ وننصحه باتباع مثل مسكويه والاهتداء بقوله لمدّعي الحكمة تكبّرا وغرورا إن لم يكن جزافا: “دعنا وما نعرفه في أنفسنا من النقص فإنه عظيم… ولا تبكّتنا بجهل ما علمناه وفوت ما أدركناه”.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب [أنباء تونس :
حديث الجمعة: المدارس القرآنية تفرض فتح الملف الديني في الدولة المدنية
شارك رأيك