“رأسي في قفص الاِتهام” و”حرف ودمعة” و”حديث الرّوح” : هذه ثلاث مجموعات شعرية صدرت عن دار الإتحاد للنشر بتونس في الأيام الأولى لسنة 2019 وكل مجموعة شعرية تضمّ ثلاثة أقسام من الشّعر بالعربية الفصحى وبالعامية التونسية وباللغة الفرنسية قد نزلت بها دُفعة واحدة زهرة الحواشي إلى الميدان الأدبي لتقول ها أنا ذا اِقرؤوني !
بقلم سوف عبيد
لكأن الشّاعرة التونسية تريد أن تستدرك ما فاتها من الفُرص فأقبلت “كجُلمود صخر حطّهُ السّيلُ من عَلِ”. إن صيغة الإصرار والتحدّي واضحة في كثير من نصوصها الشعرية حيث ورد قولها مثلا :
سنكتب
ثم نكتب
ثم نكتب
وإن قطعوا الورق
على أديم الأرض نكتب
فوق هامات السحاب المفترق
على أجسادنا البالية
نكتب رغم الأرق
فلا تحترق
ونقرأ معاني التحدّي والصّمود في النصوص المكتوبة بالعامية أيضا كقولها :
كُونْ الثّارْ
يُومْ العدُو يطلڨ عليّ النارْ
دمّ الشّهيد على جبينك عارْ
وكذلك قولها
ْكُونْ الهَم
و انزلْ على العدوان مثل السُّم
ْراهِي الكرامة تِنْفَدَى بالدّم
هَكّا غيفارا ڨال … و عاودْ وَصَّى
فهي تدعُو إلى النّضال والغضب لرفع الظلم والحيف جاعلة الثائر ـ غيفارا ـ مرجعًا ورمزًا ومُلهمًا للرّوح الثّورية بل حتّى الحبّ لدى الشّاعرة لا تراه إلا تمرّدا وعصيانا كقولها :
أحبّكَ أنا
نافرًا
متمرّدًا
عَصِيًّا
كدخان المعارك
وإنّ معاني التحدّي والإصرار مبثوثة حتّى في بعض قصائدها باللغة الفرنسية كقصيدتها القصيرة التي بعنوان “كل مرّة” التي تقول فيها :
chaque fois que je meurs
je surgis en tempête
me rappelant que là derrière
j’ai encore une autre dette
كلّما أموتُ وفي كلّ مرّة
أنبعث كالعاصفة
وأُذكِّرُ نفسِي أنّ هناك على كاهلي
ما يزال دَيْنٌ آخرُ لم أُسَدِّدْهُ
فالشّاعرة هنا ـ وهي متمسّكة بالحياة لأداء واجبها في مواصلة السّعي من أجل رقيّ الإنسان تشعر بفضل الغير عليها وترى أنه لابدّ من ردّ الجميل إليهم وتعتبر ذلك دينا ـ فكأنّها تتمثّل أسطورة العنقاء ـ الفينيق ـ التي تنبعث في كل مرّة من رمادها نارًا تضيئ العالم ممّا يؤكّد إصرارها على إثبات ذاتها لتواصل البذل والعطاء رغم التحدّيات
وسُرعان ما يتناهى إلى سمعنا صوتٌ آخر للشّاعرة زهرة الحواشي هو صوت هادئ مُنساب في رقّة ولين كقولها في قصيدتها التي بالعربية الفصحى ـ فَرْخُ القَطا ـ معبّرةً من خلالها عن مكامن الحنين والرّأفة النابعة من فيض عاطفة الأمومة لديها حيث تقول :
أيّها الٌعمْلاقُُ يا فرْخَ القَطَا
يا نَقِيَّ الرُّوحِ يا قطْر النَّدى
أيُّ سرٍّ في ابْتسامٍ
مِنْ فُؤادي اسْتلَّ حزْنا
فانْتشَى
مِسْكٌ بروحِك مثْل غيْثٍ
غمَر الُقحْطَ بروحِي
فتعشَّبَ ثم أَزْهرَ…للرّواءْ
فابْتسمْ ثمّ ابتسمْ
ثمّ ابتسمْ
يا شِفاءَ الٌروحِ
يا نِعمَ الٌدّواءْ …
قصائد زهرة الحواشي سِجِلٌّ متنوّع المضامين تتراوح بين استحضار الطفولة واستلهام النضال الوطني والعالمي مع تغنّ بقيم العدل والكرامة في كثير من القصائد مما يؤكد أن الشّعر لديها رسالةٌ سامية وشهادة من أجل حياة جميلة قائمة على الحرية والمحبة ومن المهمّ أن نلاحظ الحضور الكبير لربوع الرّيف ودلالاته في كثير من القصائد ويبدو أكثر وضوحا من خلال الشّعر العامي خاصة .
وثمّةَ غَرَضٌ قديم هو ـ المعارضة ـ نجد له حضورًا في هذه المدوّنة الصّادرة أخيرا حيث نقرأ معارضةً لقصيدة “الكلمات” للشّاعر التونسي منوّر صمادح التي نعتبرها من عيون الشّعر العربي المعاصر والتي مطلعها :
عنــدما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات
كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات
كنـــت أصـواتا بلا معنى وراء الكلمات
وتخطـــيت سنينــــا عثــرتهـــا الكلمات
أركض الأحلام والأوهـام خلـف الكلمات
ووراء الزمــن الهــارب أعــدو الكلمات
فقد اِستلهمت الشّاعرة من هذه القصيدة ونسجت على منوالها قائلة:
أقتفي أثر الصمادح
في مقام الكلمات
عندما كنت صغيرا
كنت أحبو الكلمات
فتهيم الروح مني
عند عذب الكلمات
وتمضي الشاعرة في وجدانها تَرَقِيًّا حتى تجد منتهاها في وشائج منور صمادح عشقا للكلمات حتى لكأنها أضحت هي المريدة وهو القطب الذي سلكت طريقته للوصول إلى مقام الوجد أو الحلول حسب المفردات الصوفية ولا عجب فقصيدة صمادح جديرة بالاحتذاء إذ نقرأ نسجا آخر من لُحمة وسَدَى هذه القصيدة لشاعرة أخرى هي نازك الملائكة حيث ورد في قصيدتها “أغنية حبّ للكلمات”:
فيمَ نخشَى الكلماتْ
وهي أحيانًا أكُُفٌّ من ورود
بارداتِ العِطْرِ مرّتْ عذْبةً فوق خدودِ
وهي أحيانًا كؤوسٌ من رحيقٍ مُنْعِشِ
رشَفَتْها, ذاتَ صيفٍ, شَفةٌ في عَطَشِ
فيم نخشى الكلماتْ
إنّ منها كلماتٍ هي أجراسٌ خفيّهْ
رَجعُها يُعلِن من أعمارنا المنفعلاتْ
فترةً مسحورةَ الفجرِ سخيّهْ
قَطَرَتْ حسّا وحبًّا وحياةْ
فلماذا نحنُ نخشى الكلماتْ
ولعلّ محمود درويش هو كذلك قد سلك درب منوّر صمادح في اٍستحضار الطفولة من خلال صور أخرى شبيهة عندما يقول في قصيده “إلهي أعدني” :
عندما كنت صغيرًا
وجميلا
كانت الوردة داري
والينابيع بحاري
صارت الوردة جرحا
والينابيع ظمأ
إن البحث هو الذي سيكشف السابق واللاحق من بين هذه القصائد جميعا ومَنْ تأثر بمَنْ في توارد هذه النصوص الشعرية .
ولا عجب مبدئيا ولا غَرْوَ أن يتغنّى الشعراء بالشّجون المتشابهة ضمن نفس الموضوع مستنبطين الصّورَ والكلماتِ نفسَها تقريبًا لأنّ “الشّعر ميدان والشّعراء فرسان ويقع الحافر على الحافر” مثلما قال اِين بسّام الشّنتريني الأندلسي وقد نقلتْ كتب الأدب مثل كتاب “نهاية الأرب” في هذا السّياق ما جرى بين الشاعرين اِبن رشيق واِبن شرف من اِتّفاق عجيب عندما وصف كلٌّ منهما الموز في مقطوعتين اِرتجلاها بمناسبة مناقسة بينهما اِقترحها عليهُما الأمير القيرواني المعزّ بن باديس فقال اين شرف من قطعته :
يا حبّذا الموزُ إسعادهُ * من قبلِ أن يمضغُه الماضغُ
لانَ إلى أن لا مَحَسّ لهُ * فالفم ُملآنُ بهُ فارغُ
وقال ابن رشبق من قطعته :
موزٌ سريعٌ سوغهُ * من قبلِ مَضغ الماضغِ
فالفمُ من لينٍ بهِ * مَلآنُ مثلُ فارغِ
وإنّ مُحَصّلةَ القول في مسألة المعارضة أو الاقتباس والتضمين أو التناص إنما تكمن في الوقوف على مدى التميّز والإضافة والتجديد عند مقارعة النصوص بعضها ببعض فموضوع الطفولة والحنين إلى الصبا غرض كتب فيه عديد الشعراء قديما وحديثا فقيس بن الملوح قال فيه مثلا:
تعلّقتُ ليلى وهي غِرّ صغيرة
ولم يُبدَ للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البُهم يا ليت أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البُهم
والشاعرة زهرة الحواشي تستذكر طفولتها أيضا في بعض قصائدها الأخرى كقولها في قصيدة “طفلة أنا” :
ما زلت أحضن دميتي
أصحو على شدو العنادل
أرخي جدائلي جداتين
أعدو في الحقول
تغمرني السنابل
أمّا من حيث المعمار الفنّي فإنّ الشاعرة زهرة الحواشي قد سلكت الأشكال الشعرية المختلفة ممّا يدلّ على تمكّنها إلى حدّ كبير من تقنيات النّسج الشعريّ فهي تراوح بين قصيدة البحر وبين فصيدة التفعيلة وبين القصيدة الحرّة التي لا تلتزم ببحر ولا قافية وإنّما تعتمد على اِيتكار إيقاع خاص في القصيدة يقوم حينا على التكرار وحينا على التناظر والتقابل وأحيانا على السرد والحوار وعلى العَود على البدء وعلى المباغتة ومراوغة القارئ بما لا ينتظره من سياق القصيدة.
أما قصائد العامية التونسية فهي سليلة الذاكرة الشعبية لكن الشاعرة تنحو في كثير من القصائد نحو التجديد ضمن الالتزام الاجتماعي والوطني.
هذا مدخل للوُلوج إلى مدوّنة الشّاعرة زهرة الحواشي التي يمكن اِستيعاب مختلف خصائصها بعد المسك بالخيوط التي نسجت منها أشعارها باللغة العربية الفصحى وتلك التي بالعامية التونسية وكذلك قصائدها باللغة الفرنسية حتى تتسنّى الإحاطة بهذه المدونة الثرية والمتعددة الألسن والأشكال الفنية والأبعاد الذاتية والاجتماعية والثقافية وليس من السّهل الإحاطة بشاعرة وزّعت شجونها وهمومها ثلاثا في ثلاث وبثلاثة ألسن… ولكنْ حسبُنا أنّ ما لا يُدرك كلُّه يُؤخذ جُلُّه ويكفي القلادةَ ما أحاط بالعنق.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حول الشّاعر الألماني راينر ماريا رلكه و زياراته لتونس ومصر وولوعه بالشرق
شارك رأيك