بالأمس الثلاثاء 19 فيفري 2019 سجلت نسبة الفائدة المديرية رقما قياسيا بعد زيادة البنك المركزي بمائة نقطة أساسية وذلك للحد من تضخم الكتلة النقدية لكن هل يكفي ذلك مع وجود بنوك مركزية موازية تستحوذ على قرابة ثلث الكتلة النقدية أي حوالي أربعة مليار دينار حسب تصريحات محافظ البنك نفسه؟
بقلم فوزي عبيدي
من عادة البنك المركزي ضخ السيولة اللازمة للإقتصاد أوقات ذروة المعاملات المالية وعامة مربوطة مثلا بالمناسبات وخاصة أيام خلاص أجور الموظفين لتكتمل الدورة الإقتصادية من بيع وشراء و يسترجع البنك المركزي بنسبة معقولة ما قام بضخه عن طريق إيداعات المواطنين ومختلف المتدخلين الإقتصاديين بالبنوك الرسمية لكن هذا النظام إنخرم كليا في السنوات الفارطة حيث لم تتجاوز نسبة إسترجاع الكتلة النقدية التي يتم ضخها 20 بالمائة مما دفع محافظ البنك المركزي للحديث عن بنوك مركزية موازية.
النظام المصرفي الموازي
الإقتصاد الرسمي لا يمكن أن تنجح هياكله والمؤسسات الناشطة فيه في إكمال دورة نمو متكاملة دون جهاز مالي عموده الفقري هو البنك المركزي الذي يؤمن السيولة النقدية للإقتصاد وينظم المعاملات المالية بين المتداخلين وفي محاكاة لهذا النظام المالي إستطاع الإقتصاد الموازي أن يوفر لنفسه السيولة اللازمة ضمن بنوك مركزية موازية موزعة ضمن نفوذ متزعمي شبكات التهريب التي أصبحت لا تخلو منها أي ولاية من ولايات الجمهورية. فهذه الشبكات أصبحت لا تتحوز فقط على العملة التونسية بل إمتدت إلى الإستحواذ على العملات الأجنبية للدول المجاورة و الدول الأوروبية فهذه العصابات توفر للتونسيين أو غيرهم من المغادرين نحو التراب الجزائري أو الليبي خدمات الصرافة. فقبل الثورة كانت تقتصر العملية على دكاكين عشوائية للصرف قرب المناطق الحدودية توفر للمواطنين العابرين في الإتجاهين إمكانية إستبدال الأموال الموجودة بحوزتهم لكن الآن أصبحت العملية تدور ضمن عصابات عابرة للحدود ولم تعد تقتصر على أموال محدودة بل أصبحت تستحوذ على أموال ضخمة فتقوم بإستلام المبالغ المالية الكبيرة من المواطنين الذين لا يريدون التصريح بها على المعابر الحدودية أو الذين يتهربون من مؤسسات الصرف الرسمية للعملة ثم في مرحلة ثانية يتم تسليم الأشخاص المعنيين المبالغ بالعملة المطلوبة إما في ليبيا أو الجزائر عن طريق شركائهم في الأقطار المجاورة وذلك بعد مغادرتهم لتراب الوطن.
هذه البنوك الموازية للصرف لها أسعارها الخاصة بالصرف بيعا وشراءا حيث تخضع لمدى توفر العملة والطلب عليها وتتأثر كذلك بقيمة العملة في حد ذاتها على مستوى سعر الصرف الرسمي وهي تشهد في عديد الأحيان تذبذبا مع ملاحظة النسق العام لإنخفاض سعر صرف العملة التونسية بهذه البنوك الموازية للصرف نتيجة الكتلة الضخمة للأوراق النقدية ففي أول الثورة كان سعر صرف 30 دينار تونسية بــ 100 دينار ليبية أما الآن فقد إنخفض سعر صرف الدينار التونسي ليستقر هذه الأيام على حدود 64 دينار تونسية بــ 100 دينار ليبية أما مقارنة بالعملة الجزائرية فقد إنخفضت العملة التونسية بالسوق الموازية من 100 دينار تونسية بــ 780 دينار جزائرية إلى 580 دينار جزائرية مقابل كل 100 دينار تونسية.
هذا النظام المصرفي الموازي تفاقم نتيجة عديد الأسباب المتراكمة التي ساعدته في الإستفحال على حساب النظام المصرفي الرسمي.
الأسباب المتراكمة
أسباب عديدة وراء إستفحال النظام المصرفي الموازي ولعلها أسباب متداخلة متراكمة زادت من تعقيد الأزمة وزادت خاصة من صعوبة حلها ، من أبرز هذه الأسباب توسع قاعدة الإقتصاد الموازي بصفة سرطانية الذي أصبح يناهز قرابة 40 بالمائة من الإقتصاد التونسي وهذا يحيلنا مباشرة على قيمة التمويلات التي يكتسبها وقدرته على الإستحواذ على نسبة كبيرة من الكتلة النقدية الرسمية وكذلك إحتياج هذه الأنشطة الموازية لإعادة التمويل مما يعطي مجالا حيويا لوجود البنوك الموازية لتمويل الأنشطة غير الشرعية.
من جهة أخرى نجد التهرب الجبائي كرافد من روافد التمويلات الموازية فحسب إحصائيات رسمية فإن التهرب الضريبي يتجاوز 7 مليار دينار و بلغت نسبة التحيّل الضريبي 50 بالمائة من جملة المداخيل الجبائية ففي هذه الحالة يقوم المطالب بالأداء بفصل الأرباح و المداخيل غير المصرحة بها عن الحسابات الرسمية لتبقى بعيدة عن الرقابة ليمر في مرحلة ثانية نحو إعادة إستثمارها وتمويل أنشطة في القطاع الموازي ليجد النظام المصرفي الرسمي نفسه محروما من هذه السيولة التي من المفترض أن تمول الإقتصاد الرسمي.
ومن الأسباب المستجدة التي ساعدت على تكون ما يشبه البنوك المركزية الموازية تحوّل تونس الى منطقة عبور لرؤوس الأموال المهرّبة والأموال الأجنبية المشبوهة المتأتّية أساسا من ليبيا حيث بدأت مع بداية النزاع المسلح، حيث يتمّ غسل هذه الأموال التابعة أساسا لحاشية معمر القذافي الهاربين من طرابلس بعد دخول كتائب الثوار للعاصمة الليبية والمضاربة بها في السوق السوداء وتهريبها وفق حيَل مختلفة ومعقّدة.
كذلك لا يخفى علينا جميعا وجود لوبيات إقتصادية تعمل على تهريب عائدات الإقتصاد التونسي من العملة الصعبة حيث لم يعد يقتصر تهريبها على المعابر الحدودية بل أصبحت تعتمد هذه اللوبيات على تحويل هذه العائدات بالعملة الصعبة من خلال إستغلالها لتعاملاتها التجارية العالمية بحيث يتم تحويل الأموال من المصدر أي الحريف الأجنبي نحو حسابات بنكية موجودة بدول تسهل هذه العمليات ويصعب إكتشافها إلا من خلال معلومات دقيقة.
هذا ما بينته عديد التحقيقات أشهرها المعروفة باسم بنما وكذلك ما بينته التحقيقات مع 3 مديرين عامين لإحدى الشركات التونسية المختصة في صناعة البلاستيك حيث تبين أن هذه الشركة تتعامل مع شركات بترولية منتصبة بتونس وتزودها بأوعية لخزن المحروقات غير أنّ إدارة الأبحاث التابعة للديوانة التونسية وإثر قيامها بالأبحاث اللازمة تبين لها وجود شبهات فساد مالي تتعلق بالأطراف الثلاث الذين يملكون حسابات بنكية بسويسرا على غير الصيغ القانونية ولهم معاملات مالية مع هذه البنوك دون الحصول على تراخيص من البنك المركزي التونسي وذلك بالقيام ببيع البضاعة بقيمة منقوصة عن المعمول به وتلقي الفائض في صيغة عمولات بالخارج بما قيمته 260 ألف دينار في شكل ودائع بالعملة الصعبة مع العلم أن القيمة الحقيقية للبضائع موضوع المخالفات بلغت 8 مليارات.
هذه الطرق الملتوية للتحوز على العملة الصعبة و إيداعها بالبنوك الأجنبية يتردد صداها كثيرا حول عائدات السياحة بالعملة الصعبة وهو تساؤل طرحه محافظ البنك المركزي السابق بنفسه وهو تساؤل منطقي بحكم إستعادة القطاع السياحي لإنتعاشته تدريجيا بعد أحداث 2015 الدامية فقد ناهزت أعداد الزائرين الأجانب لتونس قرابة 8 ملايين سائح سنة 2018 ولكن هذا التطور لم يقابله تطور متناسب في عائدات العملة الصعبة لهذا القطاع بل أن تغطية الواردات باليوم من العملة الصعبة لم تتحسن.
من جانب آخر نجد أن عدم الفصل في قضايا رجال الأعمال المتهمين بالفساد و إيقاف الملاحقات القضائية تبعا لذلك جعل المستثمرين يبحثون عن تحويل أموالهم لإستثمارها إما في المغرب أو مصر مما أعطى جو من عدم الثقة و الريبة في محيط الأعمال حيث أصبح الكثيرون يفضلون التعامل المالي خارج النظام المصرفي الرسمي خيفة من التتبع و الملاحقات .
ضرورة وجود جهود متكاتفة
الحد من سطوة هذه البنوك الموازية وما تمثله من خطر على العملة الوطنية يستلزم جهودا كبيرة ولكن لا تقع على عاتق البنك المركزي فقط بل يجب أن تكون نتاج سياسة وطنية جامعة هي الوحيدة الكفيلة بالنجاح في القضاء على الجهاز المصرفي الموازي لأن بعض الجوانب تخرج عن نطاق البنك المركزي، من هذه الحلول البحث عن حل للمشاكل المتراكمة التي عقدت الوضعية و أعطت زخما غير عادي للتمويلات الموازية :
– محاصرة أشكال التعامل النقدي من خلال فرض حد أقصى لهذا التعامل في كافة القطاعات وعدم الإقتصار على قطاعات معينة كما تم في قانون المالية وفي هذا الصدد من المفترض البداية هذه الصائفة في تفعيل برنامج الدفع الإلكتروني مع ملاحظة أن هذا النوع من التعاملات المالية لا يستلزم فقط نجاح الجانب التقني بل يجب كسب ثقة المواطن المتعامل بهذه التقنية وهذا يكون بضرورة وجود حملة تحسيسية لأهمية وخاصة سلامة المنظومة.
– مراجعة الإطار القانوني للصرف بصفة جذرية حيث تجاوزه الزمن بعقود فهو لا يوفر التنافسية الكافية للبنوك الرسمية للقيام بالعمليات المالية في قطاع الصرف كما أصبح ضرورة إعطاء مرونة أكبر في فتح مكاتب صرف خاصة و إكتساب حسابات بالعملة الصعبة مع تنظيم ومعايير محددة لإدماج أكثر ما يمكن من العمليات النقدية في الدورة الرسمية ومحاربة الاقتصاد الموازي والتهريب.
– هذا لايكفي لأنه في المدى القصير و المتوسط سوف يجلب أساسا المتعاملين الماليين الموجودين بالنظام المصرفي الرسمي لهذا يجب إضافة لذلك البحث عن معالجة جذرية لملف الملاحقات القضائية ضد رجال الأعمال بتهم تتعلق بشبهات فساد وهي دعوة ليس لتبييض الجرائم الإقتصادية بل لسرعة الفصل فيها وعدم وضعهم في وضعية إبتزاز بل يجب إسترجاع رؤوس الأموال التي بحوزتهم لينتفع بها الإقتصاد التونسي.
– مقاومة التهرب الضريبي من خلال القدم مضيا في سياسة الإصلاحات الجبائية وخاصة الفوترة الإلكترونية و العمل على إحترام الأحكام الجبائية الواردة في النصوص القانونية فهو واجب وطني قبل كل شيء مع مراعاة العدالة الجبائية .
– العمل الأمني و الإستخباراتي فالدول التي نجحت في مقاومة هذه الظاهرة ومنها الدول المتقدمة كالمملكة المتحدة لم تنجح إلا من خلال مجهود إستخباراتي مالي كبير وذلك عبر تكوين إطارات متخصصة في هذا المجال ذات كفاءة عالية في تتبع هذه العمليات المالية المعقدة.
البنك المركزي التونسي يرفع من جديد في نسبة الفائدة المديرية بـ 100 نقطة أساسية
شارك رأيك