من الخور وانعدام المسؤولية السياسية والأخلاقية الشروع في الإعداد للانتخابات هذه السنة بدعوى إحترام مقتضيات الدستور بينما لم يتم بعد تفعيله في أهم مقتضياته، مثل إرساء المحكمة الدستورية. لذا، احترام الدستور يقتضي تأجيل الإنتخابات إلى غاية الإنتهاء من تفعيل كامل الحقوق والحريات التي نص عليها.
بقلم فرحات عثمان*
وبما أن قيام المحكمة للدستورية، هذا المعلم الهام في الحياة الديمقراطية، لن يتم واقعيا هذه السنة ولا السنة المقبلة، فلا بد من تأجيل الإنتخابات بسنتين حتى الإنتهاء من إرساء دولة القانون حقا.
فليست تونس اليوم إلا دولة شبة قانون État de similidroit، أي ديمقراطية منقوصة sous-démocratie، أو قل هي دولة الضحك على ذقون البلهاء في بلاد جنّ البوليتيك daimoncratie.
إرساء المحكمة الدستورية:
السبب في تأخير إرساء المحكمة الدستورية سياسي بحت، إذ كل طرف من الأحزاب المهيمنة يشترط تمرير أشخاص ممن يدينون له بالولاء لحفظ حقوقه في نشاطهم المستقبلي رغم أنه، مبدئيا، قانوني بحت. إلا أننا نعلم إلى أي حد يذهب التلاعب بالقانون عند إنعدام الأخلاق والنية الحسنة؛ وقد إعتدنا بالقوانين المخزية التي تتحكم إلى اليوم في رقاب الناس بدون أية شرعية ولا عدل ولا إنصاف.
وبما أن السبب سياسي، فلا بد من عمل سياسي لمجابهته والدفع بقوّة إلى الفراغ من هذه الشكلية الأساسية التي أهميتها دون أدنى شك تتجاوز شكلية العملية الإنتخابية. فما دامت الأحزاب متعلقة أشد التعلّق بهذه الأخيرة، ليس أفضل من حرمانها منها بإقرار مبدأ تعليق الإنتخابات إلى ما بعد إرساء المحكمة الدستورية، بل وشروعها في العمل. بذلك، يتم حمل الأحزاب على الكف عن المناورة ومنع إستكمال المفروض منه دستوريا. فلا شك أن ربط أية إنتخابات قادمة بالفراغ من تفعيل الدستور في أهم ما فيه، وهو الضابط الأهم لدولة القانون بالبلاد، من شأنه حل المشكلة من الأساس. فليكن، من اليوم، شعار كل تونسي وطني حرّ، غيور على مستقبل وطنه: لا إنتخابات قبل تفعيل الدستور! هذا ما يتوجب على كل ديمقراطي رفعه، إلى حد التهديد بمقاطعة العملية الإنتخابية، إن إقتضى الأمر.
الإصلاح التشريعي الشامل:
السؤال المتوجّب طرحه على أهل السياسة اليوم هو تعريفنا أي دولة يريدون لهذه البلاد؟ فهل يسعون لغير دولة القانون؟ فإن كانت حقا مطمحهم كما يدّعون، هل هناك دولة قانون بدون إحترام دستور البلاد بتفعيل الحقوق والحريات التي أتى بها علاوة على إرساء المحكمة الدستورية؟ أليس من العار أن يتواصل العمل بقوانين العهد البائد المخزية بعد ثمانية أعوام من إنهياره؟ فهل هي حقا ثورة أم ليس هو إلا الزعم للتمويه على إنقلاب تم ضد الديكتاتور السابق لمنظومة ديكتاتورية خلفته تعمل بقوانينه بمحافظتها عليها والسهر على عدم تغييرها؟
إنه لا ثورة، حقيقة، إذا لم يتبعها إصلاح تشريعي شامل للترسانة القانونية التي كانت تظلم الناس، ولا تزال، بما أنها لم تتغير رغم دخول الدستور حيز التفيذ بقوانين وحريات لم يتم بعد تفعيلها فبقيت حبرا على ورق. لهذا، من الواجب المتأكد أن يتفرغ مجلس نواب الشعب إلى حتمية إصلاح تشريعي شامل لكل القوانين المعمول بها والتي تخالف لا نص الدستور فقط بل وروحه.
من أوكد القرارات السياسة إذن، عوض الدعوة للإنتخابات المزمع توجيهها للمواطنين لآخر هذه السنة، دعوة نواب الشعب للتفرغ حالا وبدون تأخير للإصلاح التشريعي الشامل حتى يتم الإنتهاء من الخزي العدلي الحالي الذي يطبّق فيه القضاة قوانين غير قانونية، بما أنها باطلة دستوريا. يكون هذا الإصلاح لا فقط بالنسبة لجميع ما فسد في مجلاتنا القانونية من أحكام، والعديد منها من مخلفات عهد الحماية، بل وأيضا للمناشير الباطلة المعمول بها بخلاف مبادىء القانون العامة.
إيقاف تطبيق القوانين الباطلة:
في نطاق الإصلاح التشريعي العام الذي من شأنه أخذ بعض الوقت، يفرض الحس القانوني السليم، علاوة على التصرّف الأخلاقي، الإبطال السريع لكل ما فحش من القوانين المزمع إبطالها وذلك بإيقاف تطبيقها حالا من طرف القضاة أو الإحالة إليها من طرف السلط القائمة. فبطلان هذه القوانين، التي تشمل أيضا المناشير، يجعلها مبدئيا لاغية بصفة آلية؛ وبما أن سلطنا لا تعمل بهذا المبدأ، فمن واجبها الكف عن الإستهتار التشريعي بالتنصيص على ذلك وأخذ القرار الذي تراه صالحا في الغرض. وهو، لا محالة، القرار التشريعي في إيقاف تنفيذها moratoire إلى أن يتم إبطالها بقانون.
أما فيما يخص المناشير، وهي عديدة وتتعلق بمختلف الميادين الماسة بالحريات الشخصية، ومنها تلك التي تمنع حريات أساسية مثل حرية الأكل والشرب والتجارة في رمضان، فلا شيء يمنع إبطالها بمجرد قرار إداري يمسح من الوجود مثل هذا الخزي التشريعي الذي أصبح بحق عورة هذا النظام.
فإن هذه المناشير وتلك القوانين لمثل ورقة التوت التي يستمسك بها الساسة للتغطية على رفضهم لدولة القانون الحقة بينما هي لا تغطي أي شيء مما أصبح واضحا جليّا للعيان: تمسّكهم بمنظومة الفساد التي كانت تقوم عليها الديكتاتورية؛ فعن أي ديمقراية لتونس يتحدّثون؟
التزام السلط باحترام الدستور :
الديمقراطية، علاوة على علوية القوانين العادلة، في بطلان القوانين الجائرة؛ فإن لم يكن هذا على المستوى الشكلي، أي بقوانين تبطل ما فسد، فبالإمتناع عن تطبيقها، أو على الأقل بالتوقف والتردد في ذلك من طرف السلط المعنية، وهي الشرط والنيابة العموميمة. فالأولى تمتنع عن التصرف بمقتضى قوانين غير دستورية، كإيقاف الناس وعرضهم على النيابة العمومية؛ وهذه الأخيرة من شأنها وواجبها، في حالة إحالة عليها من هؤلاء، إصلاح الخطأ بإطلاق سراح الموقوقين حالا وعدم التتبّع.
هذا ما يتوجب فعله في دولة تدّعي سلوك الديمقراطية ودولة القانون حتّى مع غياب النصوص الشكلية في ذلك، إذ لا ينقض غياب الشكل ما في المضمون، لأنه من المفروض دوما الإحترام للمشروعية المطلقة لنص قانوني علوي كالدستور رغم إنعدام الإطار الشكلي الأدنى. فتلك روح القانون ومنطق العدل وضوابط النزاهة والأخلاق!
لذا، من أوكد الواجبات على المسؤولين، خاصة في وزارتي العدل والداخلية، المسارعة بالإذن لمنظوريهم بالإمتناع عن تطبيق كل النصوص القانونية المعمول بها والتي تخرق صراحة نص وروح الحقوق الجديدة والحريات التي أقرها دستور البلاد.
وهذا ينطبق أيضا، بل أولا وآخرا، على رئيس الحكومة الذي يتحمّل مسؤولية التسيّب الحالي واللاقانوني للسلط العمومية. فهي تنشط في إطار خارج عن الدستور إذ لا تعتمد إلا على نصوص تدّعي القانونية شكلا، هي غير قانونية مضمونا ودستوريا، وبالتالي باطلة شرعا بطلانا تاما.
إنه من المؤكد على كل ديمقواطي حق أن رتق مثل هذا الصدع في البناء الديمقواطي بتونس أفضل من الاستعداد لعملية انتخابية تتم تحت ظل قوانين جائرة وحسب معايير النظام البائد. فتلك النصوص المخزية ما كان لها أن تظل قائمة ومعتمدة إلى اليوم، بما أن الواجب والمسؤولية كانا يقتضيان القيام بهذا العمل الأكيد المتأكد منذ الأشهر، بل الأسابيع الأولي، لما سمّي نفاقا ثورة.
فلتكن بحق ثورة من طرف الحكومة الحالية وكل من له الحل والعقد بهذه البلاد بالشروع في إبطال كل القوانين المخزية، بدءا بتأجيل الإنتخابات إلى ما بعد إرساء المحكمة الدستورية والبداية، دون تأخير، في الإصلاح التشريعي العام!
*ديبلوماسي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس:
حديث الجمعة: المدارس القرآنية تفرض فتح الملف الديني في الدولة المدنية
حديث الجمعة: مسمار جحا الدستوري أو المانع لإبطال تجريم المثلية بتونس
شارك رأيك