يشهد المتابعون للشأن السياسي والحزبي في بلادنا أن قادة اليسار الماركسي تعاقدوا في السنوات الأخيرة مع الأخطاء السياسية الفادحة بعد أن خانت مواقفهم قيم الفكر اليساري إلى درجة تلاقت فيها مع المواقف الرجعية والظلامية للأحزاب الدينية فبدا وكأن الأحفاد الإيديولوجيين للينين وماركس قد إلتقوا مع الأحفاد العقائديين لحسن البنا وسيد قطب.
بقلم مصطفى عطية *
حتى المظاهرات التي دأبت ” القوى” اليسارية على تنظيمها عند اللزوم وغير اللزوم أصبحت تمنى بفشل ذريع على جميع المستويات التنظيمية والتعبوية، ولا يشارك فيها إلا بعض المئات من الذين إحترفوا التظاهر في كل آن وحين، وقد شهدت العديد من هذه التظاهرات رفع شعارات تسيء للديمقراطية وقيم الحرية وتحمل مضامين غارقة في الشعوذة الظلامية كتلك التي تم خلالها رشق تمثال الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بالبيض في حركة تقطر دناءة.
اليسار عاجز على التحرك بجدية وفاعلية في الإتجاه الإيجابي
بل الأدهى والأمر أن أغلب هذه التظاهرات اللينينية الماركسية شهدت مشاركة أعضاء مليشيات ما كان يسمى بروابط حماية الثورة التي تم حلها بحكم قضائي والكثير من المشعوذين الظلاميين الفلكلوريين وتجار الدين في سابقة لم يعرفها تاريخ اليسار في بلادنا.
تقود الجبهة الشعبية، بكافة مكوناتها، الحركة اليسارية في البلاد، ولكنها ليست الوحيدة، فحزب المسار الديمقراطي الإجتماعي وبعض الأحزاب ذات المرجعية الشيوعية والإشتراكية الأخرى تعمل أيضا، ولو بنسب متفاوتة على تأكيد حضورها في الحراك السياسي والشارعي على حد سواء، خاصة وأن كل المعطيات تؤكد، نظريا على الأقل، أن الفرصة سانحة جدا أمام اليسار السياسي كي يلملم أطرافه ويستعيد موقعه الفاعل، فالأوضاع الإقتصادية والإجتماعية متدهورة والبطالة في إرتفاع مخيف والنمو تباطأ بشكل درامي أو إنعدم تماما، والمقدرة الشرائية للمواطن إنهارت والعدالة الإجتماعية تبخرت، ولكن وبالرغم من كل هذه الظروف الكارثية، لا شيء يوحي بأن اليسار، بكل مكوناته في تونس، على إستعداد لٱستغلال الفرصة والتحرك بجدية وفاعلية في الإتجاه الإيجابي.
إن التمسك بالمناهج الكلاسيكية والشعارات المهترئة والقوالب النمطية الجاهزة ، وتفضيل الإحتجاجات والمظاهرات الشارعية والإضرابات على المساهمة الواقعية في معالجة المشاكل المطروحة والتقدم إلى الواجهة لٱقتراح حلول ناجعة للأزمات المتفاقمة، عرقل، إلى حد الآن على الأقل، العودة المنتظرة لليسار السياسي على ساحة الفعل الجدي.
تغير العالم و لم يتغير اليسار التونسي
لا شك أن نجاح اليسار السياسي والإجتماعي خلال منتصف القرن الماضي بالخصوص قام على أكتاف زعماء ومنظرين وإقتصاديين أحكموا التعامل مع الأوضاع السائدة وصاغوا سياسات فاعلة وواجهوا الأزمات بشجاعة، طارحين حلولا ناجعة وقابلة للتنفبذ، ولكن هذه المقاربات لم تعد تجدي نفعا في هذا العصر الذي طغت عليه العولمة، وفقدت، تبعا لذلك صلوحيتها، فلم تعد توجد طبقة عمالية كلاسيكية بالمفهوم الماركسي اللينيني، وتغيرت وظائف الإتحادات العمالية، وأصبحت مطالبة العمال بالترفيع في أجورهم، مثلا، بمثابة الإثقال لكاهل زملائهم الآخرين في الوظائف العمومية بمزيد من الضرائب لتغطية ذاك الترفيع في الأجور، وجاءت المستجدات العالمية المتواترة منذ سقوط حائط برلين لتنسف ما تبقى من منظومة ما كان يسمى ب:”الدولية الإشتراكية” وظهرت طبقة جديدة من البروليتاريا ممثلة في المهاجرين والعاملين بدوام جزئي أو بآليات المناولة والعاطلين عن العمل.
حاولت بعض الأحزاب اليسارية في تونس، وخاصة حزب المسار الديمقراطي الإجتماعي، سليل الحزب الشيوعي التونسي، التأقلم مع الأوضاع المتغيرة والمستجدات الطارئة، وتوصل إلى التخلص نهائيا من مكبلات المنظومة الشيوعية المحنطة، في حين مازالت بعض مكونات الجبهة الشعبية، وفي مقدمتها حزب العمال، متمسكة بأدبيات اليسار السياسي والإجتماعي القديم، وهو ما جعل خطابها المتداول هذه الأيام بعيدا عن الواقع الداخلي والخارجي بالرغم من القدرة الخطابية والإتصالية التي يتمتع بها العديد من قيادييها.
شعارات مهترئة وقوالب جاهزة فقد صلوحيتها
هذا يعني ان اليسار، ونظرا لكل الهنات التي ذكرنا البعض منها بدأ يفقد تأثيره في الساحتين السياسية والإجتماعية، بل أن نشاط بعض أحزابه وتياراته تقلص شارعيا بشكل ملحوظ، وهو ما تجلى خلال المظاهرات التي تم تنظيمها في شارع الحبيب بورقيبة ولم تجمع، كما ذكرنا آنفا، إلا بعض المئات من المشاغبين الذين أساؤوا لحق التظاهر ودنسوا قيم اليسار وتاريخه الطويل في بلادنا.
وبالرغم من كل مظاهر هذا الإنحدار فإن اليساريين، سواء في الجبهة الشعبية أو في عدة أحزاب أخرى، لم يتحركوا لإيقاف هذا النزيف، بل وظفوه لفائدة أجنداتهم معتبرين إياه ضربا من ضروب الممارسات “الشرعية” ضد الظلم والتعسف وهيمنة رأس المال وخاصة الفاسد منه، وتغول القطاع الخاص، وغياب العدالة الإجتماعية وٱنهيار القطاع العمومي وهي شعارات مهترئة وقوالب جاهزة فقد صلوحيتها ولم تعد تنطلي على أبسط العامة .
* صحفي وكاتب.
مقالات بأنباء تونس لنفس الكاتب :
للتأمل فقط : عندما يجد راشد الغنوشي نفسه إلى جانب حمة الهمامي أمام “حتمية” مزلزلة لقناعتيهما!
للتأمل فقط : فضيحة المدرسة القرآنية بالرڨاب تعيد للأذهان قولة عبد الفتاح مورو لوجدي غنيم !
للتأمل فقط : مصير نداء تونس في يد الباجي قايد السبسي فإما الإنقاذ المطلوب أو الإندثار المحتوم
شارك رأيك