راشد الغنوشي و سيف الله بن حسين (أبو عياض).
في الجزء الأول من هذه الدراسة حول “السّلفية الجهادية في تونس: نشأتها وأسباب تناميها وإمكانية إحتوائها؟” يتعرض الباحث حول مراحل نشأة السّلفية الجهادية في تونس من حقبة الثمانينات من القرن الفائت إلى مرحلة ما بعد ثورة 14 جانفي 2011.
بقلم الأسعد بوعزي *
ما من أحد كان يتوقع أن تونس بلد الحضارة المتجذرة في التاريخ وقدوة العالم العربي والإسلامي من حيث التمدن والتحرر والتقدم العلمي والإجتماعي ستنجب يوما فئة من أبنائها تسعى جاهدة إلى محو تاريخها وطمس معالم ومنارات إشعاعها لتعود بها إلى عصر الجاهلية ؟
وهل كان يخطر على بال احد أن تونس الجمهورية أيقونة الإعتدال والتسامح والتفتح على المبادئ الكونية السامية ورمز السلام والوئام ونبذ الكراهية والعنف والتطرف ستصبح على رأس البلدان المصدرة للإرهاب ومهددة بان تكون أولى الإمارات الإسلامية بشمال إفريقيا ؟
ومن منا كان يعلم أن التونسيين اللذين تربوا على الأفكار النيرة لأبن خلدون وخير الدين باشا والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور والحبيب بورقيبة وغيرهم من العلماء والمصلحين سينجبون من صلبهم فئة ضالة لتكفرهم وتنقلب على معتقدهم ومبادئهم ونمط عيشهم وتتشبع من نظرية “إدارة التوحش” لتتوحش فعلا وتصبح كالكلاب المسعورة فيقتل الإبن أباه ويأكل الأخ من كبد أخيه بإسم دين لم نعهده ولن نتربى عليه ولا يشبه الأديان السماوية في شيء ؟
إن تونس اليوم تمر بفترة من أخطر الفترات التي لم يشهدها تاريخها الحديث. فهي منقسمة من حيث الدين بين إسلاميين وحداثيين ومن حيث التوجه الحضاري بين توجه شرقي محافظ وآخر غربي تقدمي ومن حيث النمو الإقتصادي بين جهات نالت قدرا من التطور والنماء ما قبل الثورة وأخرى مهمشة ومنسية منذ الإستقلال إلى يوم الناس هذا. وللتأكد من هذا الإنقسام، يكفي إلقاء نظرة على نتائج الإنتخابات الأخيرة لترى أن الولايات المهمشة صوتت لصالح الإسلاميين فيما صوتت جل الولايات الساحلية الأكثر ثراء لصالح العلمانيين وهو لعمري منزلق خطير يهدد الوحدة الوطنية إذ بدونها لا يمكن مجابهة خطر الإرهاب الذي يهددنا.
إلى جانب هذا التقسيم البغيض، فان السواد الأعظم من الشعب التونسي بدأ يشعر باليأس والإحباط بعدما خابت آماله في تحقيق أهداف الثورة المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، بل لعله تملكه القنوط أمام تفاقم الأوضاع نحو الأسوأ من حيث تفشي البطالة والفساد وغلاء المعيشة واستفحال ظاهرة التهريب والإرهاب فيما تبقى الدولة عاجزة عن إيجاد سياسة مدروسة وفعالة لمجابهة هذا الوضع بما يوحي للمواطن بأن هناك شيء قد يتغير نحو الأفضل ويعطيه بصيصا من الأمل في المستقبل.
وعوضا عن التكتل والإتحاد لإنقاذ البلاد من المخاطر التي تهددها في هذه المرحلة الدقيقة، فإن بعض النخب السياسية إختارت إستغلال هذا الوضع المتأزم وهذا التقسيم المقيت لتحقيق أهداف سياسية ضيقة حيث لجأ البعض إلى إذكاء النعرات الجهوية والقبلية فيما عمد البعض الآخر إلى إحياء صدام تاريخي بين اليوسفية والبورقيبية أو توريط البلاد في قضايا دولية نحن في غنى عنها وذلك بإيعاز من بعض الإستخبارات الأجنبية التي تترصد بتونس وتعمل جاهدة على إفشال تجربتها الديمقراطية ليتم بعد ذلك طي صفحة الربيع العربي بصفة نهائية.
وبما إن إستراتيجية السلفية الجهادية تقوم على تأسيس الخلافة من رحم الفوضى العارمة (التوحّش) أو تفكيك الدّولة وتركيب الخلافة، فإن الوضع وهو على ما هو عليه اليوم في صالح تلك الفئة الضالة التي إنقلبت علينا لتبايع أبا بكر البغدادي وتسعى إلى الإطاحة ببلادنا بعدما وضعت موقع قدم على حدودنا الجنوبية.
يقول القائد الصيني “سان تسو” (500 ق م): “إن كنت تعرف نفسك وتعرف عدوك فأنت الفائز في كل المعارك التي تخوضها معه، وإن كنت تعرف نفسك ولا تعرف عدوك فالفوز حليفك في نصف المعارك، وإن كنت لا تعرف نفسك ولا تعرف عدوك فلا مناص لك من الهلاك”.
ولمعرفة هذا العدوّ المتربّص بنا والمندسّ بيننا وجب تسليط الضوء على السلفية الجهادية بتونس لنتعرّف على نشأتها وأسباب تناميها قبل أن أتعرض إلى إمكانية احتوائها.
هذا، ويبقى للإعلام وللقوى الفاعلة من المجتمع المدني وللشخصيات الوطنية الصادقة مع شعبها والغيّورة على بلدها أن تعرّفنا بنقاط ضعفنا وتعمل على رأب ما تصدّع بيننا وبعث روح الأمل فينا للمحافظة على وحدتنا الوطنية الضّامنة للنجاح في كلّ مسعانا.
1. مراحل نشأة السّلفية الجهادية في تونس
أ) حقبة الثمانينات
تعود أولى العمليات المسلحة الموجهة ضد الدولة التونسية لزعزعة النظام القائم فيها قبل إسقاطه واستبداله بنظام يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية إلى الثمانينات من القرن الماضي. يأتي ذلك بعد ظهور عدّة فصائل جهادية في مصر أواخر السبعينات تدعو إلي قلب الأنظمة القائمة في البلدان العربية لصالح أنظمة “تيوقراطية”. تزامنت هذه الطفرة في الفصائل الجهادية مع ظهور كتاب “الفريضة الغائبة” لصاحبه محمد عبد السلام فرج الذي يلوم فيه المسلمين على ترك فريضة أساسية من فرائض دينهم وهي الجهاد ويدعوهم إلى البدء بمحاربة العدوّ القريب وهي الأنظمة في البلدان ذات الغالبية الإسلامية قبل التفرّغ لمقاتلة العدوّ البعيد من غير المسلمين.
وكانت حركة الاتجاه الإسلامي في تونس (حركة النهضة حاليا) من الحركات التي استلهمت من هذا الفكر لتتبنّى أطروحة “التغيير الجذري المسلّح والانقلاب الثوري” وتتحدّى النظام القائم بعمليات متنوعة طالت مقرات الحزب الحاكم وبعض رموزه السياسية إلى حدّ تدبير عملية إنقلابية بعد إختراق المؤسستين الأمنية والعسكرية سنة 1987.
وفي شهر أكتوبر من نفس السنة قامت مجموعة تطلق على نفسها إسم “الجهاد الإسلامي” بشن هجوم على مكتب للبريد ومركز للشرطة وتبنت التفجيرات التي ضربت فندقين بكلّ من سوسة والمنستير. وعلى إثر هذه الأحداث قام النظام باعتقال قيادات هذا التنظيم وعلى رأسهم العضو السابق بالإتجاه الإسلامي الحبيب الضاوي كما تمّ إعدام مفتي الجماعة محمد الأزرق بعد تسلّمه من السعودية التي لجأ إليها.
وقد إنتهت مرحلة الثمانينات بظهور تنظيم أطلق على نفسه “طلائع الفدى” بقيادة العضو السابق في حركة الإتجاه الإسلامي الحبيب لسود الذي يرجح أنه تم القضاء عليه في حملة أمنية بداية التسعينات.
ب) حقبة الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفييتي
شهدت فترة الثمانينات محاصرة الإسلاميين وتضييق الخناق عليهم في جل البلدان العربية لِمَا أصبحوا يشكلونه من خطر على الأنظمة الحاكمة خاصّة بعد إغتيال أنور السادات سنة 1981 وتزامن ذلك مع غزوة الإتحاد السوفييتي لأفغانستان (1979-1989). تأتي هذه الغزوة في أوج الحرب الباردة وكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحول دون توسّع العدوّ الشيوعي نحو آسيا الصّغرى التي تعدّ قلب العالم من الناحية ألجغراسياسية حسب نظرية زبغنياف بريزنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر ومنظّر السياسة الخارجية الأمريكية.
ولتحقيق النصر في هذه الحرب، كان على القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا أن تشجّع أنظمة البلدان الإسلامية على إستنفار “إسلامييها” للقتال في أفغانستان حيث صدرت عدّة فتاوى للجهاد لعلّ أهمّها فتوة الشيخ الأردني-الفلسطيني عبد الله عزام التي تقضى بأن الجهاد “فرض عين” على أي مسلم، إذا ما احتلت أي أراض مسلمة.
وتلبية لهاته الفتاوى وهروبا من بطش النظام، توجه إلى أفغانستان عدد من الشباب والقيادات الملاحقة داخل تونس بعضها ينتمي إلى حركة الاتجاه الإسلامي والبعض الأخر إلى الجبهة الإسلامية التونسية ذات الفكر السلفي التي التحق اغلب أعضائها ومؤسسيها ببيشاور بباكستان (نقطة العبور إلى أفغانستان) لعل أبرزهم محمد على حرّاث وعبد الله الحاجي الذي تمّ حبسه بسجن غوانتنامو بعد الإطاحة بطالبان.
بعد هزيمة الإتحاد السّوفييتي واندحاره خارج البلاد (15 فيفري 1989) تاركا النظام الشيوعي الذي لا يزال قائما في البلاد يواجه بمفرده المجاهدين الأفغان، تشتّت الجهاديون فمنهم من التحق “بالبوسنة” للجهاد ضدّ “سربيا” مثل الأسعد ساسي أمير كتيبة “جند أسد ابن فرات” التى تمّ تفكيكها بعد احداث سليمان 1997 ومنهم من لجأ إلى السودان الذي يحكمه الإسلاميون بقيادة الحسن الترابي فيما عاد آخرون إلى تونس حيث تمّ إعتقالهم.
ت) حقبة الحرب الأهلية الأفغانية
بعد إنتصار المجاهدين الأفغان (الجيش الإسلامي) بقيادة أحمد شاه مسعود وقيام الدولة الإسلامية مكان الجمهورية الديمقراطية الأفغانية سنة 1992، دبّ انشقاق بين القادة التاريخيين للثورة الأفغانية ما جعل حركة طالبان تغتنم الفرصة لتعلن حربا على كل الفصائل المتواجدة على الساحة سنة 1994 من اجل قيام إمارة تقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية.
وقصد التغلب على “التحالف الشمالي” بقيادة احمد شاه مسعود، كان على طالبان أن تتحالف بدورها مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن الذي استطاع في ظرف وجيز تكوين عدة كتائب جهادية جل قادتها من الذين قاتلوا إلى جانبه في الحرب ضد الاجتياح السوفييتي. وكان التونسي سيف الله بن حسين (أبو عيّاض) من بين القادة المقربين إليه وقد تولى من ناحيته تكوين وقيادة “الكتيبة التونسية المقاتلة بأفغانستان” التي أوكل إليها تنفيذ بعض المهمات الصعبة ونجحت في تحقيقها مثل اغتيال القائد أحمد شاه مسعود.
بقيت هته الكتيبة الجهادية التونسية بأفغانستان حتى بعد استيلاء طالبان على الحكم ومبايعة ألمُلّى عمر أميرا للمسلمين سنة 1996 إلى أن أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الحرب على القاعدة وحليفتها طالبان على اثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
إنتهت هذه الحرب بسقوط إمارة أفغانستان وتنصيب أحمد قرضاي على رأس نظام موالي للغرب تحت مضلّة حلف النّاتو، أمّا الجهاديون العرب فقد قبر منهم من قبر وفرّ منهم من فرّ والقي القبض على من تبقى ومن بينهم أثنى عشر تونسيا ليتمّ إيداعهم في معتقل غوانتنامو الشهير.
تعتبر هذه المرحلة نقطة تحوّل في تاريخ السلفية الجهادية إذ تمّ خلالها تزاوج الأفكار الجهادية الانقلابية الدّموية القادمة من شمال إفريقيا مع الأفكار السلفية الوهّابية القادمة من دول الخليج العربي وهو ما أدّى إلى ظهور السلفية الجهادية في أبشع مظاهرها وقد تجسّم ذلك بالتحالف البغيض بين زعيم تنظيم القاعدة حاليا أيمن الظواهري وأبيه الرّوحي منظّر الفكر الوهّابي والداعم للجهاد الأفغاني أسامة بن لادن.
هذا من حيث الفكر، أمّا من حيث الخيارات الإستراتيجية فقد غيّر تنظيم القاعدة عقيدته القتالية لينتقل من قتال العدوّ القريب (البلدان ذات الغالبية الإسلامية) إلى قتال العدوّ البعيد (القوى الغربية) وذلك بعد ما استفاد من مبايعة كل التنظيمات الجهادية المتواجدة على الساحتين الأفريقية والآسيوية التي تمرست في حروب أفغانستان والبوسنة والشيشان والجزائر والعراق وأصبحت تتمتع بخبرات عالية من حيث العمل التكتيكي والتعامل مع الأسلحة والمتفجرات ليصبح بذلك تنظيما عالميا قادرا على الضرب في أي مكان من الكرة الأرضية. وليبرهن على قوة قدراته، قام التنظيم بعدة هجومات طالت بعض البلدان الغربية مثل فرنسا وانكلترا وإسبانيا ولم تستثني بعض السفارات الأمريكية بإفريقيا.
وكي يستقطب المزيد من المتعاطفين معه ضمن صفوفه، تولّى التنظيم حملات دعائية بالصّوت والصّورة عبر شبكة الإنترنت وبعض القنوات التلفزية المشبوهة مثل قناة الجزيرة الإخبارية وكانت هذه الحملات تتمحور حول خطب بن لادن التحريضية وبعض التفجيرات والعمليات الإرهابية ما ساعد على تجنيد الكثيرين وتكوين خلايا نائمة في جلّ بلدان العالم.
وكانت تونس من بين البلدان المستهدفة من طرف هذه الخلايا التي تمّ تحريكها في مناسبتين لزعزعة النظام وضرب الاقتصاد الوطني عبر استهداف السياحة:
• الهجوم على المعبد اليهودي بجربة (2002) الذي خلف 19 قتيلا و30 جريحا معظمهم من السيّاح الأجانب. نفذ الهجوم جهادي تونسي يدعى نزار نوار كان قد تدرّب في معسكر للقاعدة بمدينة كراتشي الباكستانية.
• أحداث سليمان الدامية (اوائل2007) التي دارت بين القوات الأمنية التونسية وكتيبة “جند أسد بن الفرات ” التي يقودها الأسعد ساسى الذي قاتل في كلّ من البوسنة وأفغانستان. أودت هذه الأحداث بحياة 15 مسلحا وألقي على إثرها القبض على المئات ممّن اتهموا بالانتماء للفكر السلفي الجهادي.
ث) مرحلة ما بعد ثورة 14 جانفي 2011
بعد سقوط النظام وصدور العفو التشريعي العام في شهر فيفري2011، غادر الجهاديون السجون (وعلى رأسهم أبو عياض الذي بادر بتأسيس أنصار الشريعة) والتحق بهم من كان بالمنفى لينظموا صفوفهم ويفاجئوا التونسيين بعقد مؤتمرهم الإستعراضي الأول بالقيروان في شهر ماي 2011 تحت شعار “اسمعوا منّا و لا تسمعوا عنّا “.
كان هذا المؤتمر مشفوعا بندوة صحفية انعقدت بجهة وادي الليل بحضور القيادات الجهادية كسيف الله بن حسين (أبو عياض) وسليم القنطري (أبو أيوب التونسي) إلى جانب الخطيب الإدريسي أحد منظري التنظيم وقد رفض المشرفون على الندوة التقدّم بطلب تأشيرة العمل القانوني معتبرين أن ذلك كفرا وأنهم لن يطلبوا التأشيرة إلا من الله .
ومنذ ظهورها على الساحة، بادرت أنصار الشريعة بإشهار عدائها للدولة وتكفير السياسيين وانساقت إلى العنف حيث قامت بعدة “غزوات” سنة 2012 كالهجوم على قناة نسمة ودار العبدلّية والسفارة الأمريكية وفي سنة 2013 نفذت إغتيالين سياسيين لوجهين بارزين من القيادات المعارضة للإسلاميين والمعادية للجهاديين (شكري بلعيد والحاج احمد لبراهمي) كما خططت لتفجير مقرات أمنية وأسواق تجارية ما جعل حكومة “الترويكا” بقيادة علي لعريض تعلنها تنظيما إرهابيا بعد ضغط من الولايات المتحدة الأمريكية.
يتبع.
* عقيد بالبحرية متقاعد.
مقالات لنفس الكاتب [أنباء تونس :
حول الإضراب العام : ما يستوجب على التونسيين لتجاوز هذه السّنة المفصليّة بسلام
بعض التساؤلات حول نتائج تصويت الأمم المتحدة عن مشروع القرار المتعلق بالقدس
شارك رأيك