لكسب ثقة المستثمر التونسي والأجنبي بعد عودة الإستقرار للبلاد يبقى أهم عنصر وجب العمل عليه خلال الفترة المقبلة هو تنسيق السياسات الإقتصادية و المالية بالتشاور مع الأطراف المعنية كالمنظمات المهنية و هياكل المساندة المستقلة منها والتابعة للحكومة.
بقلم فوزي عبيدي
الإستثمار هو حصيلة سياسات إقتصادية ذات رؤية بعيدة المدى ومتجانسة ويجب أن تكون الإجراءات المتخذة لصالحه ذات منحى تصاعدي وليست متضاربة لكي لا تضعف ثقة المستثمر في مناخ الأعمال لأن الإستثمارات التي تساهم فعليا في دفع النمو وتعصير الإقتصاد الوطني وتوفير مواطن شغل دائمة وخاصة نحو إيجاد طريق مفتوح للتنمية المستديمة، هي الإستثمارات بعيدة المدى و التي مازلنا للأسف لم نصل إلى الدرجة الكافية من تعبئة موارد الإستثمار بعيدة المدى.
تذبذب نسق نمو الإستثمار
هذا التذبذب في نسق الإستثمار بين صعود وتراجع نتيجة تضارب السياسات الإقتصادية وتناقضها في أغلب الأحيان تبينه بوضوح مقارنة واقع الإستثمارات المصرح بها مع نتائج المسح السداسي المتعلق بسبر آراء رؤساء المؤسسات الخاصة حول وضع الاستثمار في قطاع الصناعات المعملية الذي قام به المعهد الوطني للإحصاء مؤخرا وهو يعطي فكرة حول ثقة المستثمرين في القطاع الإقتصادي و إقبالهم على الإستثمار.
على ضوء ذلك فقد تحسن تقييم أصحاب المؤسسات المعنية حيث إرتفع من 21% خلال السداسي الأول لسنة 2018 إلى 24% خلال السداسي الثاني من نفس السنة مع توقع نسبة إيجابية بـــ 27% خلال السداسي الأول لسنة 2019 لكن رغم هذه النسبة الإيجابية المتوقعة لسنة 2019 بحكم التشجيعات والإجراءات التي أعلنت عليها الحكومة لصالح المستثمرين و عزمها عدم فرض ضرائب جديدة خلال هذه السنة إلا أن الإستثمارات المصرح بها خلال شهر جانفي 2019 إنخفضت بنسبة 22,9% مقارنة بنفس الشهر من سنة 2018 حيث إنخفضت حسب وكالة النهوض بالصناعة من 408,6 مليون دينار إلى 315,1 مليون دينار ومن المنتظر مع نهاية السداسي الأول لسنة 2019 تسجيل نتيجة سلبية بالرغم من توقع نتيجة إيجابية بداية السنة بحكم توقع إرتفاع كبير في تكلفة الإستثمار تبعا لإرتفاع تكاليف التمويلات المالية بسبب إرتفاع نسبة الفائدة المديرية وكذلك تراجع الإستهلاك لنفس السبب.
هذا كله يبين لنا بوضوح الأثر السلبي لتناقض وعدم التنسيق بين السياسات الإقتصادية والمالية على الإستثمار وكيف أن أبسط إجراء يمكن أن ينتقل بنا من حصيلة متوقعة أن تكون إيجابية إلى حصيلة سلبية بصفة متسارعة نظرا لحساسية وهشاشة الإستثمار في تونس بحكم الضربات القاسية التي تلقاها مناخ الإستثمار في تونس خلال السنوات السابقة.
السنوات السلبية للإستثمار
فحسب نفس الوثيقة التي قدمها المعهد الوطني للإحصاء سجلت نسبة تقييم وثقة المستثمرين في القطاع الإقتصادي و إقبالهم على الإستثمار أدنى النسب سنوات 2014 و2015 بحوالي 9% و 13% متأثرة بالضربات الإرهابية القاسية التي تلقاها الإقتصاد التونسي خاصة مع الإعتداءات الإرهابية التي بدأت سنة 2013 وشهدت ذروتها بالهجوم على كل من متحف باردو في 18 مارس 2015 حيث خلف الهجوم 22 قتيلا و45 جريحا من جنسيات أوروبية، أمريكية و آسياوية وكذلك الإعتداء المسلح الذي تعرض له فندق “إمبريال مرحبا” بمدينة سوسة في 26 جويلية 2015 حيث خلف الهجوم 39 قتيلا في غالبيتهم من الجنسية الإنقليزية وقرابة 38 جريحا.
هذا ما ساهم في نشر حملة سلبية على الإقتصاد التونسي فقد لاقى الحادث صدى سلبيا كبيرا وكانت تأثيراته صادمة ليس فقط على السياحة التي شهدت إنتكاسة كبيرة في سنوات 2014 إلى حدود سنة 2017 مما أدى إلى إنخفاض نسق الإستثمار في هذا القطاع بشكل كبير بل الكثير من المنشآت السياحية أغلقت أبوابها نتيجة تراجع عدد السياح ، كذلك إنخفضت نسبة الإستثمارات الأجنبية المباشرة خلال تلك الفترة التي هي في الأصل دون المأمول لعدة أسباب.
الإستثمار الأجنبي مازال دون المأمول
الإستثمار الأجنبي المباشر يبقى من أكبر التحديات بالنسبة لتونس بحكم ضعف التمويل الوطني سواء كان عموميا أو خاصا فالإستثمارات الأجنبية المباشرة بلغت سنة 2018 قرابة 2742 مليون دينار حسب الأرقام الرسمية التي كشفت عليها إحصائيات البنك المركزي التونسي ومبدئيا يعتبر نتيجة إيجابية مقارنة بسنة 2010 السنة المرجعية التي كانت فيها الإستثمارات الخارجية المباشرة 2165 مليون دينار أي إرتفاع بحوالي 600 مليون دينار لكن إذا أخذنا بعين الإعتبار إنخفاض العملة التونسية وقيمنا هذه الإستثمارات بالدولار أو الأورو سنجد أن الحصيلة سلبية وبصفة عامة نسق هذه الإستثمارات الخارجية مايزال بعيدا عن المأمول وربما يرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب.
السبب الأول هو الوضع الإستثنائي غير المساعد على إستقطاب الإستثمار الخارجي الذي عاشته تونس خلال السنوات الفارطة والذي يعلمه الجميع.
أما السبب الثاني هو الأزمة الإقتصادية العالمية التي أثرت بشكل واضح على شركائنا الإقتصاديين خاصة بلدان الإتحاد الأوروبي التي تعتبر هذه البلدان من المستثمرين الرئيسيين في تونس بحكم العلاقة التاريخية التي تربطنا وعدم بحث الجانب التونسي على مصادر تمويل جديدة.
أما السبب الثالث هو المعيار السياسي لبعض البلدان في إستثماراتهم الخارجية حيث أن عديد البلدان لم تستثمر في المشاريع المنتجة و التي تمثل دعامة للإقتصاد التونسي بل بحثت عن طريق تمويلات مباشرة على تموقع سياسي داخل المجتمع التونسي من خلال آليات وطرق التمويل وتوجيهها.
الإجراءات الإيجابية لتحسين بيئة الإستثمار
لمواجهة هذه التحديات ودفع الإستثمار تم إتخاذ العديد من الإجراءات الإيجابية لتحسين مناخ الأعمال بتونس أهمها :
– تبسيط الإجراءات القانونية أمام المستثمرين وخاصة حلحلة عقدة البيروقراطية الإدارية حيث عكفت الإدارة العامة للإصلاحات الإدارية التابعة لرئاسة الحكومة منذ سنة 2014 على جرد أكثر من 1000 قانون ونظام تجاري بالتشاور مع الوزارات المعنية ، المنظمات المهنية و الشركات و المنظمات الإقليمية ونتيجة لذلك تمت إزالة سبع إجراءات وتبسيط كبير لـــ147 إجراء و إبقاء 86 على حالها لتلاءمها .
– إنشاء خط ساخن ” خدمات sos” منذ سنة 2016 و الذي من خلاله يتم تقديم معلومات عن الإجراءات الإدارية للشركات التي تواجه عقبات إدارية.
– بداية تطبيق القانون الجديد للإستثمار في مفتتح سنة 2017 الذي تمت المصادقة عليه في 30 سبتمبر 2016 وهو ينص على العديد من الإمتيازات و الحوافز الممنوحة التي تشمل أساسا منح الترفيع في القيمة المضافة و القدرة التنافسية ، التنمية الجهوية ، المشاريع ذات الأهمية الوطنية.
– الدخول في إستغلال منظومة الشراءات العمومية على الخط ( Tuneps) سنة 2018 و الذي سيمكن من إعطاء شفافية أكثر على منظومة الصفقات العمومية وسيمكن جميع المستثمرين من الإطلاع على جميع طلبات العروض للمشترين العموميين مع الحرية و المساواة الكاملة المكفولة لجميع المشاركين في طلب العروض بكل شفافية.
– في 4 أفريل 2018 تمت المصادقة على القانون الذي إقترحته الحكومة المتعلق بالمؤسسات الناشئة للدفع الإقتصادي عبر اللجوء إلى التكنولوجيا المتطورة و إستيعاب الأفكار المجددة .
– حصر الأنشطة الإقتصادية الخاضعة لترخيص وضبط أحكام إسناد هذه التراخيص وتبسيطها بتوحيد إجراءاتها عن طريق الأمر الحكومي عدد 417 لسنة 2018 مؤرخ في 11 ماي 2018 الذي حدد 143 نشاط خاضع للترخيص.
كسب ثقة المستثمر
لكسب ثقة المستثمر خاصة مع إنحسار العوامل السلبية للوضع الأمني بفضل ماتم إحرازه من تقدم في مكافحة الإرهاب والتطرف والسيطرة عليه و بعد الإجراءات الإقتصادية لصالح المستثمرين التي تم القيام بها السنتين الأخيرتين يبقى أهم عنصر وجب العمل عليه خلال الفترة المقبلة هو تنسيق السياسات الإقتصادية و المالية و أن تكون كافة الإجراءات سواءا سياسية أو إقتصادية وعندها تأثير مباشر أو غير مباشر على وضعية الإستثمار محل دراسة متأنية وخاصة ذات بعد إستراتيجي على المدى المنظور وليست مدروسة فقط على المدى القصير مع ضرورة التشاور مع الأطراف المعنية كالمنظمات المهنية و هياكل المساندة المستقلة منها والتابعة للحكومة لأن الإجراءات الإيجابية وحدها لاتكفي بل كسب ثقة المستثمر على المدى البعيد وذلك بالإبتعاد عن القرارات المتسرعة و الفجئية التي تعطي إنطباعا بالتذبذب في مسك الملف الإقتصادي.
شارك رأيك