أكبر معضلة في قطاع الصحة التونسية هي التعيينات التي تشوبها تضارب في المصالح وهذا موجود منذ عشرات السنين بحكم إنفتاح تونس على مبدأ حرية السوق و إعتماد صيغة التزود في شكل صفقات عمومية من عند الخواص… يجب وضع حد لهذه الظاهرة المشينة.
بقلم فوزي عبيدي
بلغت الميزانية المرصودة لوزارة الصحة بإعتبار الموارد الذاتية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة قرابة 8000 مليون دينار بواقع 2500 مليون لسنة 2017، 2645 مليون لسنة 2018 و 2866 مليون لسنة 2019، وهذا المبلغ الضخم طبيعي أن يجلب لوبيات رؤوس الأموال وأن يكون هدفا لعمليات الفساد خاصة مع منظومة تصرف تقليدية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تجاوزها الزمن بل أصبحت هي في حد ذاتها من أسباب الفساد بقطاع الصحة إلى جانب عوامل أخرى كتضارب المصالح مما يجعل الحكومة تحت ضغط ضرورة القيام بخطوات عاجلة ومدروسة لمواجهة ذلك خاصة بعد توالي الإنتكاسات التي عرفها قطاع الصحة العمومية في تونس وآخرها وفاة 15 رضيع بمستشفى الرابطة بتونس بعد أن كان قطاع الصحة في تونس مفخرة البلاد بعد الإستقلال.
القطع النهائي مع ظاهرة تضارب المصالح
أكبر معضلة في قطاع الصحة التونسية هي التعيينات التي تشوبها تضارب في المصالح وهذا موجود منذ عشرات السنين فبحكم إنفتاح تونس على مبدأ حرية السوق و إعتماد صيغة التزود في شكل صفقات عمومية من عند الخواص بكل ما تحتاجه وزارة الصحة من مواد ومستحضرات طبية وشبه طبية، لكن بحكم الخصوصية الفنية والتقنية للمستلزمات و المواد الطبية التي تتطلب دراية كبيرة في هذا الجانب، قام العديد من الإطارات العليا ببعث شركات تجارية ومؤسسات مختصة نشاطها الأساسي تزويد وزارة الصحة بمختلف هياكلها الصحية بالمستحضرات والمستلزمات الطبية، مع إحتفاظ هؤلاء الإطارات بمناصبهم مثل نوع من تضارب المصالح، لذلك وجب القطع مع هذه الظاهرة خاصة في التعيينات العليا بالوزارة، وهنا ليس قدحا في ذمة المسيرين ونزاهتهم بل هو سبيل ومبدأ معمول به يضمن حياد الإدارة فليس معقولا أن يكون المشرف على مصلحة المشتري العمومي والمزود في نفس الوقت، فلا ننسى أن أول و أكبر عملية إختلاس بالبلاد التونسية كان مأتاها تضارب المصالح فقد كان محمود بن عياد في عهد البايات في نفس الوقت يشغل خطة قابض عام للدولة التونسية بما يساوي رتبة وزير وكذلك هو في نفس الوقت مزود الإيالة بما تحتاجه من مؤن وعتاد فقام بفبركة الشراءات وتضخيمها و إصدار سندات الدفع باسم خزينة الدولة التونسية فأصبحت ثروته أكثر من مداخيل الدولة آنذاك بأربع مرات وبعدها طلب الحصول على الجنسية الفرنسية سنة 1850 ليهرب بعدها بسنتين نحو فرنسا حاملا معه جميع ما تم سرقته.
لذلك وجب على الحكومة أن تكون حاسمة في هذا الموضوع وأن تكون التعيينات في المستقبل لكفاءات إدارية ثبت إستقلاليتها عن لوبيات الأدوية ضمانا لحسن التصرف في الأموال العمومية وضمانا لحقوق الدولة وذلك بإعتماد مبادئ توجيهية واضحة بخصوص حالات إنتقال الأعوان العموميين للعمل بالقطاع الخاص لتفادي الوقوع في حالات تضارب المصالح خاصة أن تضارب المصالح يعد أكبر إختراق للحوكمة الرشيدة وكذلك يعقد عملية تتبع عمليات مكافحة الفساد.
ردع عمليات الفساد في الصحة
الملاحظ أن كل مشكلة تقع في تونس وفي أي قطاع حيوي نجد أن جزءا كبيرا من المشكلة وراءه الفساد فما بالك بقطاع الصحة الذي يتسم بتعقيدات كبرى على مستوى المتابعة وهياكله التي تعاني من سوء التسيير والحوكمة الإدارية والمالية الغائبة فجل قضايا الفساد في قطاع الصحة لم يتم كشفها إلا بعد أن تسببت في كوراث صحية للمجتمع كقضية اللوالب القلبية منتهية الصلوحية التي تورطت فيها عدد من المصحات و عدد من الأطباء المباشرين لعمليات زرع اللوالب الطبية منتهية الصلوحية حيث تضرر من العملية 107 مريضا.
من جانب آخر تعددت عمليات الفساد نظرا لسهولة التلاعب بالإجراءات الإدارية و المالية بالهياكل الصحية التي تعتبر منظومة التصرف فيها جد متخلفة تفتقر إلى أبسط معايير و تفتقر إلى دليل إجراءات ناجع وخالي من الثغرات مما سهل عمليات السرقة الممنهجة كقضية سرقة كميات من مواد “الكيتامين” المخدر من الصيدلية المركزية ومن مستودع توزيع أدوية المستشفيات بسوسة من سنة 2012 إلى سنة 2016.
كذلك تعددت عمليات السرقات تحت غطاء التداوي بالملفات الوهمية كالتي تم تسجيلها بمصحة العمران حيث تم فقدان كميات مـن الأدويـة الخصوصية وصـرف أدوية دون وصفات طبية، عن طريق فتح ملفات وهمية بالصيدلية التابعة للمصحة.
هذه الأمثلة من الطرق الملتوية للإستيلاء على الأموال العمومية تشهدها أغلب المؤسسات الإستشفائية و بدرجات متفاوتة حيث يعتبر هذا القطاع من أكثر القطاعات التي تناولتها التقارير السنوية المتتالية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سنوات 2016 و2017 حيث أبرزت أن هذه التجاوزات الخطيرة كبدت المجموعة الوطنية خسـائر فادحة قدرت بعشرات المليارات وقد أحالت جملة من ملفات الفساد على القضاء لكن أغلبها لم يقع البت فيها.
لهذا لزاما على الحكومة تفعيل آليات ردع هذه الممارسات وذلك عن طريق تدعيـم نظـم الرقابـة بغايـة ضمـان أكثـر نجاعـة لعمليـات المراقبـة والتدقيق التي تقـوم بهـا التفقدية التابعة لوزارة الصحة وتدعيمها بخبراء في مراقبة التصرف الإداري و المالي وتمكينها من إستقلالية وظيفيـة أوسـع بما يمكنهـا مـن المبـادرة تلقائيا أو عنـد تلقـي شـكاوى بمهـام تفقـد بحسـب أهميـة المخاطـر التي تتفطن إليهـا في إطار القيام بمهامها، وإمكانية إشعار النيابة العمومية مباشرة بحالات الفساد عند الإقتضاء، وفي مرحلة ثانية الحزم من خلال متابعـة وتنفيذ التوصيات الواردة بتقاريـر التفقد في خصوص معاقبة وتتبـع بعـض المسـؤولين بالإدارة الذين ثبتت في شأنهم تجاوزات ترقى إلى جرائم فسـاد حيث لوحظ تراخي أو تغاضـي الرؤساء المباشرين أو سلطة الإشراف عن متابعتهـم سـواء بإحالة المشبوه فيهم على مجالـس التأديب أو القضاء حسب الحالة.
من جانب آخر العمل الفوري على تفعيل دور المجلس الأعلى للتصدي للفساد واسترداد أموال وممتلكات الدولة والتصرف فيها الذي أحدث بمقتضى الأمر الحكومي عدد 1425 لسنة 2012 المؤرخ في 31 أوت 2012 و الذي لم يجتمع إلا في مناسبتين الأولى في 30 أكتوبر 2012 و الثانية في 17 ماي 2013 بالرغم من أهميته القصوى في متابعة وتنسيق مختلف اللجان و الهياكل الوطنية المكلفة بمصادرة و إسترجاع و التصرف في الأموال المكتسبة بالطرق الملتوية الراجعة أساسا للدولة والموجودة بداخل وخارج البلاد .
مراجعة منظومة التصرف حسب الأهداف
هذه أصبحت من الضروريات القصوى التي يجب على الحكومة العمل عليها فبالرغم من أن وزارة الصحة تعد من الوزارات الأولى التي تم إدراجها ضمن الوزارات النموذجية لتطبيق منظومة التصرف في الميزانية حسب الأهداف كمدخل إصلاح منظومة التصرف بالوزارة منذ سنة 2013 وتركيز مبادئ الحوكمة الرشيدة، إلا أنه لم يلاحظ أي تحسن ملحوظ على مستوى التصرف في المنظومة الصحية وليست هناك جدية كافية في العمل على هذا الموضوع وخاصة تقييم العمل ضمن منهجية التصرف حسب الأهداف، وهذا يتبين لنا من خلال الإطلاع على مشاريع ميزانية وزراة الصحة للسنوات الفارطة 2017 و2018 و2019 حيث قسمت الميزانية على ثلاثة برامج رئيسية : الرعاية الصحية الأساسية، الخدمات الصحية الإستشفائية و البحث والخدمات الإستشفائية الجامعية إلى جانب برنامج القيادة والمساندة، لكن عند التدقيق في أهداف هذه البرامج و المؤشرات الموضوعة لقياس مدى التطبيق والوصول للأهداف المرسومة مسبقا نلاحظ تغيير دائم سنويا لهذه المؤشرات ولجل الأهداف، ما من شأنه عدم إعطاء رؤية واضحة حول تطور أداء الوزارة لتسهل عملية تشخيص الأداء وتطويره وهو ما يتنافى مع أبسط مبادئ منهجية التصرف في الميزانية حسب الأهداف.
رقمنة قطاع الصحة
هذا التمشي برقمنة قطاع الصحة مكن العديد من الدول من تجاوز الثغرات المسجلة في المنظومة التقليدية التي لا تمكن من متابعة جميع العمليات المالية وأثرها المادي فالرقمنة ضرورة ملحة يجب على الحكومة التسريع في خطواتها خاصة أن عديد التجارب النموذجية في تونس أثبتت أنها تساعد على غلق أكثر ما يمكن من الثغرات على عمليات التصرف الملتوية وتزيد في التخفيض من كلفة التداوي ففي بعض التجارب النموذجية تم التحكم في الكلفة بنسبة 30 بالمائة مع التنقيص من العمليات الإدارية المفروضة على المريض للتداوي مما خفض في فترات الإنتظار وبذلك يتم الوصول لعدة أهداف في نفس الوقت.
تطوير التنظيمات الإدارية لهياكل الصحة العمومية
من جانب آخر ، حان الوقت للحكومة أن تبحث بجدية تطبيق التنظيمات الهيكلية الجديدة المبنية على حوكمة قطاع الصحة نظرا لأن القطاع عنده خصائص تميزه عن القطاعات الأخرى فأغلبية دول العالم التي يحضى قطاع الصحة فيها بدعم الدولة قامت بتطوير هذا النمط الجديد من التنظيم الإداري والمالي الذي يتمحور حول إرضاء المريض بدرجة أولى وهذا النمط من التصرف في المنظومة الصحية وقع تناوله في عديد الدراسات في تونس من قبل مختصين بوزارة الصحة على أمل تطبيقه في قادم الأيام حيث سيمكن من تطوير المنظومة على ثلاثة أصعدة : الطبي، الإداري والمالي وهو مقتبس من عديد الدراسات و التطبيقات التي وقعت في بلدان أوروبية مرتكزة على ما قام بتطويره في هذا المجال الكندي Henry Mintzberg وهو أكاديمي كندي متخصص في تنظيم الهياكل الإدارية وعرف خاصة بدراساته في مجال تطوير مؤسسات الصحة.
شارك رأيك