إحتجاجات العاطلين عن العمل.
التحوّل الديمقراطي عملية صعبة لا يمكنها أن تنجح إلاّ بتطبيق القانون وتفعيل القضاء الذي بدونه تعمّ الفوضى وتفقد الدولة هيبتها. وهنا يستوجب على الحكومة الإسراع بتفعيل القوانين التي تمّ تمريرها وخاصّة منها قانون حماية الطفل وقانون حماية المبلغين وقانون محاربة الإرهاب الإرهاب و غسيل الأموال.
بقلم الأسعد بوعزي *
لا شكّ أن كلّ التونسيين على إختلاف وضعهم الإجتماعي وخاصّة منهم أولائك الذين ينتمون الى الطبقات الضعيفة والهشّة أصبحوا يتذمرون من الوضع الذي تردّت فيه بلادهم ويخشون على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في ظلّ ما يتناقله الإعلام المحلّي والعالمي ومختلف شبكات التواصل الإجتماعي من أحداث مرعبة.
كيف لا والحال أنه لا يكاد يمرّ يوم دون أن يصابون بصدمة على غرار تلك التي تتعلق بمحتشد الرقاب أو بفاجعة الرابطة أو بالمدرسة الإبتدائية بصفاقس أو بالحوادث التي تأتي على أرواح العديد من النساء الرّيفيات العاملات في قطاع الفلاحة وغيرها من الأحداث المريعة.
وقبل التعرّض الى ما يمكن فعله للحدّ من الإحتقان وتجنّب الأسوأ، لا بدّ من التذكير بالأسباب والحيثيات التي قادتنا الى ما نحن عليه من وضع مزري وإنحطاط إخلاقي وبيئة إجرامية ومتعفنة وتقهقر على كلّ الأصعدة وهي لعمري حالة لا تعكس في شيء ما نادت به أهداف “لثورة” من تشغيل وكرامة وحرية وعدالة اجتماعية.
1- اسباب تردّي الوضع الإجتماعي:
إن اسباب تدهور الوضع الإجتماعي عديدة ومتعدّدة نذكر من أهمها ما يلي:
– الأسباب السياسية: إن الإجراء الدستوري الذي يضبط تقاسم الحكم بين رأسيْ السلطة التنفيذية والقانون الإنتخابي المعتمد في الإنتخابات التشريعية يأتيان على رأس الأسباب السياسية التي أوصلتنا إلى هذا الواقع المرير الذي نعيشه. فالأوّل نتج عنه تنافر بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة وصل إلى حد القطيعة وهو ما إنعكس سلبا على حسن سير مؤسسات الدولة وأدخل الرّيبة والشكوك لدى المواطن، والثاني بوصفه يقوم على التمثيلية النسبية مع مراعاة أكبر البقايا فإنه إنبثق عنه مجلس هجين عطّل كلّ القرارات والقوانين التي تسيّر البلاد ولها علاقة مباشرة بحياة المواطن اليومية. ومن نتائج القانون الإنتخابي نذكر أيضا التجاذبات السياسية بين الأحزاب الحاكمة وما نتج عنها من عدم إستقرار في الحكومات المتعاقبة التي فشلت كلّها في إنجاز ما يمكن أن يبعث الأمل في المستقبل جرّاء المحاصصة الحزبية.
– الأسباب الإقتصادية وهي تتلخص في قلّة التنمية التي أدّت إلى تفشّي البطالة ما ساعد على إنتشار الجريمة المنظمة علاوة على إنزلاق الدينار وتغوّل الإقتصاد الموازي على حساب الإقتصاد المنظّم وهي كلّها عوامل أضرّت بالمرفق العمومي وبالقدرة الشرائية للمواطن.
– إستهداف القضاء عبر السّعي الى إختراقه من طرف الأحزاب الحاكمة ومن بعض رجال الأعمال الفاسدين والتشكيك في نزاهته وحياده من طرف بعض الجهات المغرضة. وقد تكون هذه الأطراف نجحت في تعطيل حسن سير القضاء بصفة أو بأخرى حتّى أصبح الإفلات من العقاب هو الرأي السّائد لدى عامّة الناس. وعندما يلاحظ المواطن تأخر القضاء في البتّ في عديد القضايا (وخاصّة منها تلك التي تمسّ من أمنه وممتلكاته) وقد يكون ذلك بسبب كثرة الملفات وقلّة العديد والإمكانيات وإعطاء الأولوية الى معالجة الملفات الحارقة وخاصة منها التي تتعلق بالإرهاب، فإن شعوره بالإفلات من العقاب يصبح لديه حقيقة راسخة.
إنّ مثل هذا التقدير ساهم في إضعاف هيبة الدولة وبالتالي ساعد على التمرّد عن القانون. ولعلّ ما نشاهده اليوم من إعتداء على موظفي الدولة وإجرام في حقّ المرفق العام يجد تفسيره في الشعور بالإفلات من العقاب وإنكسار حاجز الخوف لدى المواطن بسبب غياب الرّدع وعدم تطبيق القانون.
– الإنفلات الأمني هو أيضا أصبح من الظواهر المثيرة للحيرة والقلق وهو راجع بالأساس الى تحرّر المواطن من الخوف بعد “الثورة” وضعف الأجهزة الأمنية في التصدّي الى هذا الإنفلات في غياب قانون يحميها وبسبب خوفها من المسائلة بدعوى الإعتداء على حقوق الإنسان. وعندما يُضاف التحرّر من الخوف الى الشعور بالإفلات من العقاب فإن كلّ الجرائم تصبح جائزة لدى المواطن وهو ما يفسّر الإعتداءات المتكرّرة على رجال التعليم والإطارات الطبية وشبه الطبيّة وأعوان الأمن والإدارة.
– إنفلات العمل النقابي في شتّى القطاعات والميادين بما يوحي بخروج بعض الجامعات النقابية والمكاتب الجهوية عن سيطرة المكتب المركزي للمنظمة الشغّيلة الذي أصبح بدوره يتصدّى الى كلّ الإصلاحات المتعلقة بالشركات والمؤسسات المفلسة وخاصّة منها الصناديق الإجتماعية.
وفي ظلّ هذا الإنفلات النقابي أصبحنا نرى بعض النقابات الجهوية وبعض الجامعات تتحدّى سلطة الدولة ولا تعترف بممثليها ولا تتأخر في شلّ قطاعات بأكملها منها ما هو بعلاقة مباشرة بحياة المواطن اليومية. وعلى غرار المنظمات النقابية فإن العديد من المنظمات المهنيّة غالبا ما تلجأ الى العِصبة (corporatisme) للإلتفاف على تنفيذ قرارات الحكومة وإلى الضغط على القضاء من أجل عدم مساءلة المخالفين للقانون من منتسبيها.
– المحسوبية والفساد وغياب الحوكمة الرشيدة وهي عناصر مرتبطة ببعضها البعض و تتلخص في وضع رجال فاسدين محسوبين على جهات بعينها قد تكون أحزابا أو لوبيات أو مافيات تسعى الى تحقيق أهداف ومئارب خاصّة وهو ما من شأنه أن يضرّ بالحوكمة الرشيدة. ويندرج في هذا الإطار كلّ الصفقات المشبوهة وعمليات التهريب وسوء التصرّف في موارد البلاد.
– الإضرار بالإدارة التي كانت مكسبا من مكاسب الدولة بعد إغراقها بآلاف المنتسبين الى العفو التشريعي العام ووضع البعض منهم في مناصب هامّة مع أنهم يفتقرون الى الخبرة والكفاءة وهو ما أثقل كاهل المرافق العمومية وأثر سلبا على مردودها.
2- كيف يمكن تجنّب الكارثة؟
وبما أن الوضع الإجتماعي بعد الأحداث الأخيرة أصبح على غاية من التأزّم بما ينبئ بإقترابنا من الكارثة وعملا بمقولة “لكلّ وضع إستثنائي لا بدّ من حلول إستثنائية”، فإنه أصبح لزاما على الحكومة التعجيل بمراجعة سياساتها المتعلّقة بالخدمات الأساسية والملحّة للمواطن وهي الأمن والصحّة والتعليم والنقل والمقدرة الشرائية.
ولبلورة هذه الحلول بما يساعد على ربح الوقت، من المقترح على الحكومة توخّي التمشّي التالي:
– على مستوى رئاسة الحكومة: مراجعة الأهداف المرسومة لكلّ من الوزارات المعنية من أجل ترتيب الأولويات بما يحسّن من رفاه عيش المواطن ويحدّ من الخروقات والإخلالات ويذلّل من الصعوبات التي تلاقيها المؤسسات العمومية في أداء مهامّها. هذا، وترسل هذه المراجعات الى الوزراء ضمن مذكرة توجيهية une directive قصد الإقتداء بها في بلورة مخطط العمل plan d’action من أجل تحقيق هذه الأهداف.
– على مستوى الوزارة المعنية: دراسة الأهداف العامّة موضوع المذكرة التوجيهية وتفكيكها الى أهداف فرعية قبل مراجعة الأولويات صلب الوزارة بما يسمح بتوفير الموارد المالية الاّزمة لتنفيذ هذه الأهداف في الآجال المرسومة.
وقصد تنفيذ هذه الخطّة التي تتّسم بالدقّة والواقعية، لا بدّ من شروط ثلاثة:
– حكومة تكنوقراط قادرة على دراسة الوضع وإيجاد الحلول الكفيلة بتدارك النقائص والخُروقات وتلبية الحاجيات الملحّة إذ يصعب على حكومة سياسية ومبنية على المحاصصة الحزبية القيام بمثل هذا العمل. ومتى تعذّر ذلك (ولعلّه موضوع الحال)، لا بدّ من أن تلجأ الحكومة الى بعث لجان تتكوّن من خبراء وكفاءات مختصّة من أجل رسم الأهداف وبلورة مخطط العمل والسّهر على تنفيذه.
إن رسم هذه الأهداف وتنفيذها يبقى غير كاف ما لم تكن الرّقابة فاعلة ودائمة. وهنا لا بدّ من الإعتراف أن التفقّديات التابعة للوزارات أخلّت بدورها ما أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم ممّا يستوجب على الدولة التفكير في بعث جهاز رقابة تابع للحكومة ومتعدّد الإختصاصات للقيام بتفقّدات فجئية على الوزارات الحسّاسة بما يحث التفقّديات الوزارية على القيام بدورها.
– الأخذ في الإعتبار إمكانية اللّجوء الى قانون مالية تعديلي loi de finances rectificative من أجل دعم الوزارات التي يتّضح من خلال الدراسات أنها في حاجة الى أموال إضافية قصد تنفيذ برنامج الإنقاذ الذي يخصّها.
– محاربة الفساد أينما كان وبسط هيبة الدولة وهذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ بالإعتماد على قضاء مستقلّ وناجع وهو ما يحتّم الإسراع بدعم هذا السلك بالعديد والعدّة والنأي به عن التجاذبات السياسية.
لا بدّ أن نتذكر أنّ التحوّل الديمقراطي عملية صعبة لا يمكنها أن تنجح إلاّ بتطبيق القانون وتفعيل القضاء الذي بدونه تعمّ الفوضى وتفقد الدولة هيبتها. وهنا يستوجب على الحكومة الإسراع بتمرير قانون حماية الأمنيين والحرص على تفعيل القوانين التي تمّ تمريرها وخاصّة منها قانون حماية الطفل وقانون حماية المبلغين وقانون الإرهاب و غسيل الأموال.
إن التدخّل من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه داخل الوزارات المعنية بخدمة المواطن أصبح عاجلا وملحّا من أجل الحدّ من الإحتقان وتغيير الوضع نحو الأفضل. الأمر يبدو صعبا في هذه الفترة الإنتقالية خاصّة مع إقتراب المواعيد الإنتخابية غير أن تحقيقه يبقى ممكنا متى توفّرت الإرادة السياسية الصادقة من جميع الأطراف بعيدا عن التجاذبات الحزبية التي لا يمكن أن تقود إلاّ الى الكارثة.
*ضابط بحرية متقاعد.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
بروز عبير موسي على الساحة السّياسية: هل هو ظاهرة عابرة أم حقيقة راسخة؟
السّلفية الجهادية في تونس: نشأتها وأسباب تناميها وإمكانية إحتوائها؟ (3-3)
حول الإضراب العام : ما يستوجب على التونسيين لتجاوز هذه السّنة المفصليّة بسلام
شارك رأيك