ظاهرة العجز التجاري على مستوى المبادلات الخارجية أصبحت ظاهرة مقلقة للإقتصاد التونسي وتنذر بأخطار محدقة حول مدى قدرة الدولة على الإيفاء بإلتزاماتها تجاه شركائها التجاريين ففي العقود السابقة.
بقلم فوزي عبيدي
صحيح أنه، في أغلب الفترات، الإقتصاد التونسي يسجل عجزا تجاريا سنويا، ولكن ليست بهذه الكيفية، بل كان يتم التحكم في هذه الظاهرة السلبية، على عكس ما يصير في السنوات الأخيرة من تفاقم للعجز التجاري الذي أصبح ينذر بالخروج عن سيطرة الدولة، فقد تم تسجيل سابقة تاريخية فحسب المعهد الوطني للإحصاء تفاقم العجز التجاري خلال سنة 2018 إذ سجل رقما قياسيا 1904,1مليون دينارا (م. د.) مقابل 15592,0م. د. خلال سنة 2017 و 12601,2 خلال سنة 2016، وكما تبينه الأرقام فهو في وتيرة تصاعدية حيث أصبح أزمة هيكلية بالنسبة للإقتصاد التونسي يجب معالجتها على المدى القصير بقرارات آنية لكبح هذا النسق التصاعدي للعجز مع ضرورة العمل على حل هذه المشكلة إستراتيجيا على المدى المتوسط و البعيد.
تعريف العجز التجاري
بداية، يجب الإشارة إلى أن العجز التجاري حسب النظرية الإقتصادية ليس بالضرورة وضعا سيئا ومنذرا بالخطر الوشيك لأنه غالبا ما يصحح نفسه بمرور الوقت وفق آليات إقتصادية ذاتية تهم العرض والطلب وظاهرة العجز التجاري تهم أساسا الإقتصاديات التي تعاني مشاكل في مستوى إنتاج القيمة المضافة فنجد بلدانا تعاني من العجز التجاري كتونس مثل لبنان، ومصر والمكسيك.
وعجز الميزان التجاري هو مقياس إقتصادي لميزان تجاري سلبي تتجاوز فيه واردات الدولة صادراتها، ويمثل العجز التجاري أهم عنصر سلبي لتدفق العملة الصعبة إلى الأسواق الأجنبية مما يؤدي إلى إنخفاض حاد على مستوى سعر صرف العملة الوطنية.
هذه المشكلة الإقتصادية لا تمثل خطرا حقيقيا مادامت في وضع التحكم لكن تصبح مشكلة معقدة عندما تكون بصفة متواصلة وفي نسق تصاعدي بعد أن كانت مشكلة عابرة متحكم بها كما هو الحال بالنسبة لتونس حيث أصبحت ظاهرة تتفاقم كل عام بأكثر شدة.
هذه المشكلة أصبحت هيكلية من خلال جانبين، الجانب الأول يتبين في تسجيل هذا العجز في كل سنة مع نفس البلدان تقريبا فنجد دائما الصين الشعبية بحوالي 5 مليار دينار ثم نجد إيطاليا بأكثر من 2 مليار دينار ثم تركيا بما يناهز 2 مليار دينار بعدها تأتي الجزائر بحوالي 1,2 مليار دينار وروسيا بحوالي مليار دينار في الوقت الذي تسجل فيه تونس فائضا تجاريا مع العديد من البلدان الأخرى كفرنسا بأكثر من 2,7 مليار دينار وليبيا بقرابة 780 مليون دينار وبريطانيا بقرابة 190 مليون دينار.
الجانب الثاني الذي يبين لنا مدى ترسخ هذه الظاهرة كمشكلة هيكلية يصعب حلها على المدى القريب، تبرزه نتائج مستوى عجز الميزان التجاري لقطاع الطاقة الذي تجاوز سنة 2018 أربعة مليار دينار ومن المنتظر أن يتجاوز عتبة 4,5 مليار دينار سنة 2019.
اللجنة البرلمانية
هذه المشكلة التي أصبحت متداولة بكثرة بالساحة السياسية في الآونة الأخيرة ومصدر تجاذب بين كافة الأطراف تستلزم البحث عن أسبابها بكل موضوعية وشفافية وعدم إعاقة الوصول إلى تشخيص حقيقي للأسباب يمكن من إتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد من آثار هذه المشكلة في مرحلة أولى و إيجاد حلول جذرية في مرحلة ثانية.
في هذا الإطار تم تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في الأسباب الحقيقية لتفاقم العجز التجاري وذلك حسب تصريحات أعضائها في ندوة صحفية انعقدت في مقر البرلمان بإعتبار أن هذا العجز يهدّد بإفلاس البلاد وعدم قدرتها على الإيفاء بتعهداتها المالية الدولية.
وهي أول لجنة تحقيق برلمانية تشكلها المعارضة وتترأسها بعد أربع سنوات من عمل مجلس نواب الشعب وقد إعتبر جل أعضائها أن هذا الموضوع صحيح فيه جانب تقني لكن يخفي وراءه جانبا سياسيا . ومن المأمول أن تنجز هذه اللجنة عملها وتقدم تقريرا عن الأسباب الحقيقية لعجز الميزان التجاري تتم مناقشته في جلسة عامة في البرلمان.
لكن أمام هذه المشكلة ذات البعد الوطني للإقتصاد التونسي هل ستنجح هذه اللجنة في تشخيص الظاهرة خاصة أمام تعقيدات الملف التقنية وإرتباطه بمسائل فنية تهم المبادلات والتجارة الخارجية، هذا، إضافة لعديد الأسئلة التي تحوم حول توقيت تأسيس اللجنة خاصة و أن الإستحقاقات الإنتخابية على الأبواب وهو ما ينذر بتراشق وتجاذب سياسي أكثر منه بحث جدي عن التشخيص وإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجة الأزمة.
الأسباب الهيكلية للعجز التجاري و الحلول الممكنة
ظاهرة العجز التجاري التي تسجلها تونس في المبادلات التجارية مع الجانب الصيني تعاني منها عديد البلدان ولا تقتصر على تونس فقط وهذا يرجع بالأساس إلى مكامن القوة الهائلة التي تتمتع بها الصين على مستوى التصدير من التكلفة الزهيدة للإنتاج وخاصة اليد العاملة و إعتماد سلسلة الإنتاج الواسعة النطاق واللجوء أحيانا إلى إغراق الأسواق بسياسة تخفيض الأثمان بصفة مشطة والإعتماد كذلك على قوة الجانب اللوجستي للعملاق الصيني من بنية تحتية من خلال الإستثمار الكبير بواقع 150 مليار دولار سنويا في مشروع طريق الحرير الجديد والإعتماد على وسائل النقل الضخمة فعلى سبيل المثال تم صناعة سفن صينية للشحن البحري تتجاوز طاقة حمولتها 200 ألف طن أي ما يتجاوز في بعض الأحيان صادرات دولة كاملة.
لهذا نجد العديد من البلدان إتخذت العديد من الإجراءات الجمركية والحمائية ضد سياسة إغراق السوق التي تنتهجها الصين ومن هذه الإجراءات نذكر الرسوم الجمركية التي فرضتها دول الإتحاد الأوروبي على واردات الدراجات الهوائية المستوردة من الصين حيث فرضت عليها نسبة 45% رسوم جمركية نتيجة سياسة إغراق السوق المنتهجة من الجانب الصيني. مع الإشارة إلى أن هذه الحصيلة السلبية بخمسة مليار دولار مع الصين تعتبر رسمية لكن تنقصها الواردات التونسية المتأتية عن طريق مسالك التجارة الموازية فأغلبية المواد و السلع الرائجة بقطاع التجارة الموازية مستوردة من الصين بصفة غير شرعية أي أكثر من 90 بالمائة من سوق التجارة الموازية في تونس مصدره الصين.
لهذا من الواجب التعامل مع هذه المشكلة بكل جدية من خلال دراسة فنية وتجارية معمقة للواردات التونسية من الصين لتبين مدى مطابقتها مع الإجراءات المعمول بها على مستوى المبادلات التجارية العالمية خاصة قواعد المنظمة العالمية للتجارة فيما يخص السياسات التجارية غير النزيهة كإغراق السوق وذلك لإتخاذ الإجراءات اللازمة كفرض رسوم جمركية على المواد التي تكتسي صبغة إغراق السوق أو ممارسات تجارية غير شرعية أخرى.
من جانب آخر يجب العمل على تطوير السياسات الحمائية غير الجمركية للإقتصاد التونسي وأن تكون صلب الإهتمامات الإستراتيجية للحكومة لأنها تتطلب مشاركة العديد من الوزارات المتدخلة في الجوانب الفنية لتطوير هذه السياسات التي تعتمد بالأساس على تطوير المعايير الفنية للمنتوجات التي يتم ترويجها بالسوق التونسية وهذا يتطلب الإستثمار في مجال المخابر وتكوين الإطارات المتخصصة وهذا يمكن من إكتساب الخبرات والآليات التي تكتسبها الدول المتقدمة في هذا المجال بحيث تصبح المواصفات التونسية أكثر تشدّدا مما يحمي بدرجة أولى المستهلك التونسي من منتوجات صحيح أنها ذات أسعار متدنية ولكن جودتها أقل بكثير من المواصفات العالمية المعمول بها وكذلك يساعد المنتوج التونسي على تطوير جودته وتنافسيته.
في مستوى ثان نجد أن العجز التجاري متواصل بصفة دائمة مع الطرف الإيطالي والتركي حيث نجدهما في المرتبة الثانية والثالثة على مستوى الحصيلة السلبية في التبادل التجاري بقرابة 2 مليار دينار لكل جانب وربما في هذه الحالة نجد أن المسؤولية الكبرى تقع على الجانب التونسي خاصة بعد الفترة الإستثنائية التي مر بها الإقتصاد التونسي منذ عشرة سنوات التي تميزت بركود على مستوى التصدير فمن المفروض أن تكون الإتفاقية المبرمة مع الجانب التركي للتجارة الحرة منذ دخولها حيز التنفيذ في 2005 فرصة للجانب التونسي للدخول للسوق التركية ومنها لأسواق بلدان آسيا الوسطى، ولكن على العكس كان هناك إتجاه واحد للمبادلات التجارية، لهذا يجب العمل في البداية على تطوير صادراتنا التقليدية وإرجاعها لنسقها العادي نحو هذه البلدان خاصة الفسفاط فهذه البلدان كانت تتزود من تونس بهذه المادة الحيوية لفلاحتها وإقتصادها لكن تقهقر الإنتاج التونسي من هذه المادة جعل هذه الدول تبحث عن بدائل أخرى، كذلك العمل على إستغلال عامل القرب خاصة من الجانب الإيطالي وما يوفره من فرص تصدير وشراكة في قطاع النسيج والمواد الأولية التونسية.
وبصفة عامة يجب القول أن الجانب التونسي لم يستغل كامل قدراته في التصدير خاصة على مستوى الذهب الأخضر زيت الزيتون فغير معقول أن تكون ثاني دولة في العالم بعد إسبانيا من حيث إنتاج زيت الزيتون والكميات المنتجة من هذه المادة للسنة الفلاحية الفارطة أي 2017/2018 مازالت أغلبها تقبع في مخازن ديوان الزيت نتيجة صعوبات في التسويق والتصدير وهو موضوع يستحق الدراسة لوحده.
من جانب آخر نجد أن تونس من أكثر البلدان تضررا بالأزمة الليبية فقبل سنة 2011 كانت ليبيا تمثل رئة الإقتصاد التونسي حيث كانت السوق الليبية تمثل أهم أسواق المصدرين التونسيين ولكن بعد أحداث العنف والإقتتال الليبي الداخلي مثلت إنتكاسة للمصدرين والإقتصاد التونسي عامة حيث كانت تمثل عاملا إيجابيا لتوازن الميزان التجاري التونسي وتعويض الحصيلة السلبية المسجلة مع عديد البلدان الأخرى.
من الأسباب الهيكلية نجد كذلك العجز الطاقي وهو في نسق تصاعدي مستمر ومن المنتظر أن يزداد ضغطه على عجز الميزان التجاري هذه السنة ليتجاوز 4,5 مليار دينار خاصة مع المؤشرات السلبية لسوق النفط العالمي وإرتفاع نمو الطلب على النفط في عام 2019 إلى 100 مليون برميل في اليوم مقابل 98 مليون في العام الماضي وفقا لأوبك مقابل إنخفاض مخزونات النفط الخام خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية ما من شأنه الترفيع في أسعار النفط العالمية، لهذا وجب العمل على التسريع في إنجاز الخطة الوطنية للطاقات البديلة التي تعثرت لعديد السنوات ما من شأنه تعويض كميات كبرى من المحروقات يتم إستيرادها من الخارج خاصة أن الإنتاج الوطني محدود جدا وفي طوره للزوال.
شارك رأيك