من أسباب الأزمة في تونس غياب ثقافة سياسية وفكرية تكون قادرة على تشكيل وعي جديد يُنتج المسؤول الوطني الذي يترفّع عن المهاترات والمناورات ويغلّب المصلحة العامة للبلاد على المصلحة الخاصة، حزبية كانت أو فردية.
بقلم محسن بن عيسى *
هناك نوع من المسؤولية لا تتحدث عنها الدساتير، وهي معنوية بالغة الأهمّية، وهي مسؤولية رجال الدولة أمام تاريخ بلادهم وشعبهم. فالسياسيون والقادة منهم يحملون باسم الأمانة التي في أعناقهم أكبر قدر من الواجب في الحفاظ عن تاريخ البلد ومصيره ورفاهية شعبه وحريته وأمنه خلال فترة معيّنة أو عُهدة إنتخابية. ولا شك أنّ هؤلاء يعنيهم التاريخ وهم يمارسون المسؤولية الحكومية في جوانبها القانونية والسياسية والمالية.
المسؤولية المشار إليها لا تعتمد دائما على قواعد في قيامها و لا على نصوص قانونية تنظّمها، إنما يكفي لقيامها أن تَستَند على قواعد الأخلاق، فتظهر في صورة “مسؤولية أخلاقية”، أي أنها تُثار عند مخالفة القواعد والقيم المشتركة التي نتقاسمها و ليست عند تجاوز الحدود القانونية.
أزمة حكم ومسؤولية تخفي أزمة ثقافة وأخلاق
علينا أن نُقرّ وأنّ الشعور بالمسؤولية قبل كل شيء هو نتاج داخلي وسياق مجتمعي ومناخ سياسي ملائم يرعى قيمها، ويسهر على ترسيخها. ولعلّ الذي ينبغي التأكيد عليه هو غياب ثقافة سياسية وفكرية مغايرة لدينا، ثقافة تكون قادرة على تشكيل وعي جديد يُنتج المسؤول الوطني الذي يترفّع عن المهاترات و المناورات ويغلّب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ثقافة تُخرجنا من دائرة المقاربات التي ترتدّ إلى الأسلاف ليجيبوا عن أسئلة راهنة وأحداث قائمة.
إن هذا الوضع بلا شك يؤشّر إلى وجود أزمة حكم ومسؤولية لا تقف عند الصورة التي نقدمها لأنفسنا، بل تتعداها إلى الصورة التي نعكسها عند الآخرين. آن الأوان لنتحمّل المسؤولية ونعترف بقصورنا في معالجة الأمور ولن نبالغ إذا قلنا أنّ الإختيارات السياسية كانت ولاتزال إحدى الأسباب الرئيسية في محدودية إنجازاتنا، وتراجع أدائنا، و تسلّل “فقه التّمكين” الأصولي والمتطرف بخططه وفصوله ومراحله إلى مجتمعنا.
وحريّ بنا اليوم أن نضع أمورنا بأيدي عقلائنا، ممن إجتمعت فيهم القيم الأخلاقية واستوت لديهم الوسيلة والغاية ولهم القدرة على تعزيز تدابير الرقي والتقدم لدينا.
الخوف من خطر النفوذ الأجنبي
أخشى ما أخشاه على البلاد أن تصبح الخيانة فيها وجهة نظر. فانتشار الفساد المؤسسي وتحويل الدولة إلى مجرّد سلطة يتنازع مناصبها البعض بحثا عن مصالح ومنافع، يعزّز الميل إلى الإعتقاد بأنّ الوضع ليس عفويا، وأنه يجري على نحو منظّم ومتزامن، مما يجعلنا نتصور أنّ القادم سيكون صعبا.
نحن لا نصنع الأحداث ولكن نستثمر أخطاء الآخرين. لقد عرفت بعض الدول أزمات عصفت بالجميع وأدخلت الإختلاف والخلاف في كل مكان لديها. ومن تداعياتها أنها دفعت العديد من أفرادها إلى العمل لصالح جهات أجنبية. ومن ذلك، تجربة ” المجتمع السوفياتي” الذي تم إختراقه سابقا، عبر تنفيذ مهمة سهلة وبسيطة ولكن صادمة تتلخّص في إختيار “الأسوأ في كل وظيفة ومسؤولية”.
كان العملاء يتقاضون من الخارج أموالا طائلة مقابل مهمّة خطيرة تتكوّن من كلمتين “إختر الأسوأ”. نجحت هذه “المهمة اللعينة” التي قام بها كثيرون داخل الدولة في تجريد قوة عظمى بوزن الإتحاد السوفياتي من أبنائها الموهوبين والمخلصين، واستنزاف قوّتها حتى الإنهيار.
بالتأكيد، هناك أخطار حقيقية تُحدق بالدولة، وإن أرفض التشاؤم والتعميم فالجميع قلقون مما يجري في الكواليس لدينا.
إخضاع توزيع المسؤوليات إلى معياري “التحزّب” و”المحاباة”
في زمننا لا يوجد شيء إسمه “بعيدا عن السياسة”، كل القضايا هي قضايا سياسية، لذلك أجدني أخوض غمار الحديث عن المخاطر التي تتهدّد مجتمعنا أيضا من خلال ما يجري على أرض الواقع، وفي صدارتها تنامي هجرة الكفاءات لدينا والتي تمثل صفوة النخبة الوطنية، و تغيير المعايير في توزيع المسؤوليات وإخضاعها إلى معياري “التحزّب” و”المحاباة”، بدلا من معيار المؤهل والتخصّص والكفاءة.
لاشك أنّ الدولة سائرة بمقتضى ذلك نحو العجز في أداء مهامها. ولن يحمي هذا العجز مجتمعها المدني بل سيساهم في إضعافه، و خلق “مجتمع موازي”.
هناك بالطبع من إختار البقاء والعمل طوعا داخل الوطن ومواصلة الطريق الصعب لأجل المصلحة العليا للبلاد، ولكن قدرة “المجتمع الموازي” أكبر بكثير من قدراتهم. هذا المجتمع هو الذي يمنع الكفاءات من الوصول إلى مواقعهم الأصلية في مراكز صنع القرار وفي أحضان الجامعات ومراكز البحوث، وهو الذي يضع في المؤسسات من يقومون بتدميرها ذاتيا، وهو الذي ينشر ثقافة التطرف والمخدرات والدماء، وهو الذي يضع العراقيل في كل طريق، وهو من يخلق الحلقات المُفرغة حتى لا تتّسق خطواتنا باتجاه الأفضل.
والأصل في المسؤولية أن يكون رجال الدولة عارفين بأحوال المجتمع، فالدول لا تهوى على نحو مفاجئ، بل هناك من يقومون بالتجويف المستمر حتى تنهار.
* عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
تونس بين الأمس واليوم : عندما تضعف المشاعر الوطنية ينفرط عقد الدولة
العنف: كيف يستقيم السلوك العام بين “قوة القانون” و”قانون القوة “؟
شارك رأيك