في مطلع تسعينات القرن الماضي وقعت حادثة اضطرت الرئيس السابق بن علي أن يقرر، تحت تأثير بعض الوشاة، إيقاف توزيع مجلة “المستقبل العربي” بعد أن نشرت مقالا لراشد الغنوشي قبل أن يتراجع عن قراره…
بقلم مصطفى عطية *
كانت وزارة الثقافة في مطلع تسعينات القرن الماضي تقتني كمية هامة من أعداد مجلة “المستقبل العربي” التي يصدرها مركز الوحدة العربية ببيروت بإدارة خير الدين حسيب وذلك لتوزيعها على المكتبات العمومية لأهمية ما تتضمنه من دراسات وبحوث ممهورة بإمضاءات كبار المفكرين العرب، وحدث أن صدر عدد من المجلة متضمنا نصا لراشد الغنوشي.
مجلة “المستقبل العربي” متهمة ب”التحريض على تونس ونظامها”
وكما كان منتظرا لعبت أعشاش المتابعة والمراقبة والإستخبار والإخبار دورها في إيصال المعلومة إلى الرئيس زين العابدين بن علي بعد تلغيمها بالوشاية والمزايدات والأكاذيب والتهويل، فٱستشاط غضبا وأزبد وأرعد ثم جمع أعضاء ديوانه لٱستشارتهم في الأمر.
كانت مواقف البعض ومنهم عبد الوهاب عبد الله موغلة في التحريض في حين تفرد سالم المكي بالإعتدال والعقلانية مؤكدا للرئيس أنه لا يمكن إثارة مشكلة من أجل مقال أو دراسة وطالب بإرجاء البت في الأمر حتى الإطلاع على فحوى ما كتبه الغنوشي.
لم يعجب هذا الموقف المحرضين فأمعنوا في تهويل المسألة حتى أقنعوا بن علي بإصدار أمره بالتوقف عن إقتناء المجلة وكل منشورات المركز فورا وفتح تحقيق لتحديد المسؤوليات.
لما علم خير الدين حسيب بالقرارات الزجرية التي تم إتخاذها ركب أول طائرة أقلعت من بيروت بٱتجاه تونس وعند وصوله إمتطى سيارة تاكسي قاصدا وزارة الثقافة التي يعرف مقرها جيدا إذ سبق وزارها في مناسبات عديدة. وعندما إستفسر عن سبب تلك القرارات التي إستهدفت منشورات مركزه جاءته الإجابة من المعنيين بالأمر مؤكدة له إستحالة تفعيل الإشتراك الخاص بالإقتناءات في ظل تعامله مع راشد الغنوشي وأمثاله من قيادات حركة النهضة المحظورة.
الوشاة الأراذل هم الذين يصنعون الديكتاتوريات
كانت إجابة خير الدين حسيب واضحة ومقنعة، إذ ذكر أنه لا يتعامل مع الأشخاص ولا يبحث في إنتماءاتهم ومرجعياتهم وتنظيماتهم بل مع النصوص التي تصله للنشر، ولم يجد في مقال راشد الغنوشي ما يسيء لتونس ونظامها.
أقنع كلامه وزير الثقافة في تلك الفترة الدكتور المنجي بوسنينة فأبلغه للرئيس زين العابدين بن علي الذي طلب تمكينه من النص للإطلاع عليه بنفسه فتم له ذلك في الحين.
مع إشراقة صباح اليوم الموالي، وكان يوم عطلة أسبوعية (أحد)، هاتف الرئيس بن علي وزير الثقافة المنجي بوسنينة في منزله وأعلمه بأنه قرأ المقال عدة مرات ولم يجد فيه ما يسيء، مستغربا من مواقف بعض أعضاء ديوانه الذين بالغوا في التحريض دون أن يطلعوا على فحوى المقال وأمر بإعادة العمل بٱشتراك الإقتناءات فورا.
قضى خير الدين حسيب العطلة الأسبوعية في أحد نزل شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة وهو ينتظر على أحر من الجمر لتبرئة ذمته من تهمة “التحريض على تونس ونظامها” ولإعادة العمل بٱقتناءات وزارة الثقافة لكمية هامة من مجلة “المستقبل العربي”، ولما أعلمه المنجي بوسنينة بالخبر السار أثناء إستقباله له بكتبه في بداية الأسبوع الموالي، أطلق زفرة حرى وقال: “أمثال هؤلاء الوشاة الأراذل هم الذين يصنعون الديكتاتوريات في أمتنا العربية المكلومة”.
* كاتب وصحفي.
المقال السابق:
للحقيقة والتاريخ : خفايا وأسرار ما قاله حمادي بوصبيع ليوسف الشاهد حول النادي الإفريقي!
شارك رأيك