الإسلام الرسمي ممثلا في شيوخ الزيتونة إنتصر لإسلام بورقيبة المنبت ضد الفكر الإصلاحي للشيخ عبد العزيز الثعالبي.
فشل الشيخ عبد العزيز الثعالبي السياسي، الذي كان سببه غريمه الحبيب بورقيبة، كان له أخطر الوقع على مشروعه الإصلاحي الديني، مؤديا به إلى الفشل الذريع أيضا، خاصة وقد قاومه الإسلام الرسمي ممثلا في شيوخ الزيتونة. فقد انحاز هؤلاء إلى إسلام بورقيبة، واعتبروه، لانبتاته، أقل خطورة على صيرورة الإسلام؛ وبالتالي اعتقدوا عدم قدرته على تغيير حال الإسلام بصفة ناجحة ودائمة، بينما كان ذلك ممكنا، لتجذره، مع الفكر الإصلاحي للثعالبي.
بقلم فرحات عثمان *
لئن لم يكن الحبيب بورقيبة علمانيا كما كانت الحال مع كمال أتاتورك مثلا، فقد جعل من فهمه للحداثة الغربية اللائكية شعارا وظفه بتونس ضد الفهم المتزمت للدين؛ إلا أنه أخطأ حين تجاهل، بل قاوم بشراسة، بعض التجليات المستنيرة للدين، مثل الإسلام الصوفي، أو خاصة فكر غريمه السياسي الشيخ عبد العزيز الثعالبي، زعيم الحزب الدستوري القديم. فما كان من هذا العداء إلا أن أدّى إلى فشل تلك المحاولة الجريئة لتجديد فهم الإسلام بتونس.
بذلك ساعدت لائكية أو شبه لائكية بورقيبة خصوم الشيخ المجدّد، وعلى رأسهم الإسلام الرسمي بالبلاد، ممثلا في شيوخ الزيتونة الذين تصدّوا لما اعتبروه فكرا علمانيا. فقد عدّ شيوخ الزيتونة فكر الثعالبي أخطر بكثير من علمانية بورقيبة لصفته المتجذرة في دين الشعب؛ ذلك لأن منطلقه الإصلاحي كان الدين نفسه، في قراءة جرىئة ومتجددة، لكنها أصيلة ومتأصلة في جوهر الإسلام، خلافا لعلمانية بورقيبة المنبتة؛ لذلك رُمي بالزندقة وكُفّر.
فكر الثعالبي الثوري:
كان الثعالبي رائدا للفكر الحداثي بتونس وأحد رجالات الإصلاح الإسلامي، وقد التقى بمعظمهم خلال رحلاته العديدة؛ فكانت له، دون شك، شهرة لا تٌنكر في العالم الإسلامي رغم ثقافته العلمانية، نظرا لعدم إنبتاته عن الحضارة الإسلامية. التقى الثعالبي عندئذ بأهم أهل الفكر الإصلاحي أمثال عبد الرحمن الكواكبي، وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وحسن الطويراني؛ كما أنه تتلمذ بالقاهرة على يدي الشيخ محمد عبده. أما بتونس، فقد كان من طلبة الزيتونة ثم الخلدونية والمنقطعين للشيخ سالم بوحاجب والأستاذ البشير صفر.
بدأ صدامه مع الإسلام الرسمي وشيوخ الزيتونة منذ عودته إلى تونس من بعض رحلاته، سنة 1904، عاقدا العزم على نشر فكره الإصلاحي حسب منهج أستاذه محمد عبده. فقد دُبّرت له مكيدة تورط فيها الإسلام الرسمي مع الإحتلال، جعلته يدخل السجن لشهرين، ما زاده ثورة على ثورة: الثورة على ظلم الإحتلال، وعلى المنظومة الدينية التقليدية المحافظة المتحالفة مع الإستعمار. فبعد مغادرته السجن، أصدر بباريس، سنة 1905، كتابه «روح التحرّر في القرآن»، وكان بالفرنسية تحت عنوان “L’esprit libéral du Coran” قبل أن يقع تعريبه، مضمّنا إياه العديد من الأفكار الإصلاحية، ومنها المتعلقة بتحرير المرأة المسلمة، ومحاربة البدع، والتمسك بالكتاب والسنة، والدعوة إلى تخليص العقيدة الإسلامية مما إختلط بها من باطل مناف لروح التوحيد الخالص. لقد أراد به الرد على خصومه شيوخ الزيتونة بإظهار حقيقة الدين الإسلامي كدين مقام على أسس الحرية والعدالة والتسامح، مبيّنا بالدليل القاطع أن الإسلام في شكله الصحيح لا يتنافى مع المدنية الحديثة، ولا يعوق التقدم البتّة.
لقد وسمت الزيتونة وشيوخها الفكر الإصلاحي للشيخ الثعالبي، وما دوّنه خاصة في الكتاب، بأنه متأثر لا فقط بأفكار مؤسسي مدرسة المنار، بل أيضا وخاصة بمبادئ التحرّر التي أطلقتها الثورة الفرنسيّة؛ ولعل ما اعتبروه الأخطر فيها هي دعوته لتأويل متحرّر للقرآن حسب تعاليم الإناسة، وأيضا لوحدة أتباع الديانات السماوية لأهل الكتاب. ولا شك أن هؤلاء الشيوخ، الناقمين على التطوّر، كانوا يقاومون أيضا الطموح السياسي للثعالبي، وهو في عنفوان الشباب، لمّا يدخل بعد معترك السياسة، فسعوا للإفساد عليه، متواطئين مع الاستعمار كالمرّة السابقة.
كتاب «روح التحرّر في القرآن»
يتضمن الكتاب مدخلاً واثني عشر فصلاً، منكرا جل التفاسير القديمة في العديد من المسائل التي أدّت إلى إندثار الحضارة الإسلامية، ومنها وضعية المرأة في الإسلام، وعلاقات المسلمين والمسيحيين وغيرهم من أهل الكتاب – إذ الإسلام دين البشرية جمعاء – وتأويل القرآن، وقضية الجهاد. فعن المرأة، التي خصّص لها الفصل الثاني، دعا إلى تحريرها من كل القيود التي اختلقها المفسرون والفقهاء، وأهمها الحجاب وملازمة البيت. فهو يؤكد أن نساء المسلمين لم يرتدين الحجاب تديناً، وإنّما تقليداً وتشبهاً؛ فالمسلمات كنّ يتجولن في كل مكان سافرات، ثم رأين ستر وجوههن مثل النساء الفارسيات للتميّز عن الجواري اللاتي لم يكن يتحجبن.
وبتعرّض الكتاب للجهاد في الإسلام بالفصل الحادي عشر، مبتدئا برفض التأويل المعهود لآيات السيف في سورة التوبة، رافضا أت تكون أحكاما شرعية؛ إنما هي عنده تأويل واجتهاد بشري. ذلك أنها آيات نزلت في وقت معيّن، كان فيه المسلمون في حروب مع أجوارهم، فمثّلت حالة مؤقتة لحصار لا بد له أن ينتهي بانتهاء الحرب التي أشهرها المسلمون على أجوارهم؛ وباستتاب السلام يكون تصرف المسلمين مع أعداء الأمس مطابقاً لما جاءت به السور المكية الداعية للسلم والوفاق مع جميع البشر. أما العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، فقد تعرّض لها في الفصل الرابع، مبيّنا أن الحقد والتعصب مردّه الحروب الصليبية التي حملت العديد من المفسّرين على تحريف النصوص بقصد إذكاء العداوة بين المسلمين وغيرهم. فموروث الأحقاد والضغائن التي نمت في قلوب المسلمين تجاه الصليبيين تواصلت عند بعض أهل التفسير أمثال الألوسي، والسيوطي، والخازن.
والثعالبي يدعو إلى وحدة أتباع الديانات السماوية الثلاث لوجود قاسم مشترك بينها من شأنه اتحاد أتباعها، وهو الأخلاق. وهو ينحو باللائمة على أهل التفسير إذ أنهم أوّلوا آي القرآن كدين قومي لا يعنى إلا العرب وحدهم، بينما هو دين البشرية جمعاء. لذلك يبيّن في آخر الكتاب إن التأويل المنشود للقرآن يهتمّ بفهم معانيه حسب مبادئه ومقاصده؛ ويرى أن مثل هذا التأويل يطابق مبادىء الثوة الفرنسية، إذ هي نفسها التي جاء بها الإسلام كدين ثوري بامتياز. وبذلك يتسنّى للمسلم تغيير عقليته فيصبح إنسانا حرّا، متفتحا على كل ما له علاقة بالإنسانية والرقي والحضارة.
مآخذ الإسلام الرسمي على فكر الثعالبي:
رأى شيوخ الزيتونة، بداية، أن الثعالبي أراد تصفية حساباته مع علماء تونس إثر تجربته المريرة بالسجن التي جعلته يُكنّ لهم حقداً وعداءً سحبه على من سبقهم من علماء المسلمين، خاصةً المفسرين، فندد بموروثهم العلمي الذي تأخد به الأمّة. ثم انتقدوا منهجية الكتاب بانعدام التوثيق، وبالأخص لاتهاماته؛ ثم غلبة التعميم والإبهام مع الاعتماد على أحاديث ضعيفة في معظم استشهاداته. هذا، وطعنوا في ثقافته العامة في مجال العلوم الشرعية.
كما اعتبر الإسلام الرسمي أن الثعالبي يدعو بأفكاره إلى إعادة النظر في فهم القرآن الكريم بعيداً عن طرق التفسير ومناهج المفسرين المسلمين وذلك لاستبدالها بمناهج غربية مستمدّة من روح الثورة الفرنسية، مثل الدعوة إلى وحدة أتباع الديانات السماوية الثلاث ونزع حجاب المرأة وتشجيعها على الاختلاط. لذا، اعتبروا هذه الأفكار خطيرة على المجتمع، ومن ثم عدّوها انسلاخاً من الذات لحساب الفكر الغربي العلماني، ذاكرين دعوته البيّنة إلى الاعتماد على مبادئ الثورة الفرنسية لإصلاح المجتمع المسلم. وعموما، رفضوا نسبة أفكاره التحرّرية إلى القرآن وبعض المفسرين، منكرين أن تمتّ بصلة، إلى الفكر الإسلامي، فليست إلا مجرد امتداد لأفكار سابقة عُرفت بها مدرسة المنار، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
المقال السابق:
حديث الجمعة : بذور التزمت الإسلامي بتونس (1): لائكية الحبيب بورقيبة
شارك رأيك