يحاول هذا البحث الأكاديمي الإسرائيلي فهمَ ظاهرة خيار الإستشهاد الإرادي في الإسلام، وتحديدا في الأزمنة الحديثة، أكان في الأوساط السنّية أو الشيعية، العربية أو غير العربية. ليُقدّم الكتاب إطارا شاملا للشهادة ضمن خطاب الحركات الإسلامية المعاصر.
بقلم عزالدين عناية *
يندرج كتاب “الشهيد في الإسلام الحديث” ضمن الأبحاث السوسيولوجية التي تتناول ظاهرة العمليات الاستشهادية في المجتمعات الإسلامية إبان الحقبة المعاصرة. صدر الكتاب بالإيطالية وحظي مؤلّفُه بحضور لافت في وسائل الإعلام لِما يعالجه من قضايا راهنة على صلة بموضوعيْ الأمن والإرهاب في الغرب.
المؤلف هو أستاذٌ وباحثٌ في الدراسات الإسلامية وقضايا الشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس. صدرت له جملة من الأبحاث منها: “الهويات السياسية في الشرق الأوسط: الخطاب الليبرالي والتحدي الإسلامي في مصر” (2007) و”الفكر الليبرالي العربي بعد حرب 67: مآزق الماضي وتطلّعات الراهن” (2015).
يستمدّ الكتاب الذي نتولى عرضه أهميته من كونه يعبّر عن وجهة نظر أكاديمية إسرائيلية، تحاول رصد ظاهرة التضحية بالنفس وتفهّمها بعيدا عن الخطاب السياسي الإسرائيلي الرسمي الأهوج في غالب الأحيان.
فعلى نطاقٍ عامٍ، مثّل التوترُ العنوانَ الأبرزَ في علاقة العالم الإسلامي بالعالم الغربي على مدى العقود الأربعة الأخيرة، وبما يفوق ذلك مع الدولة العبرية منذ إغتصاب فلسطين. ولم تبق المسألة في حدود المماحكة اللفظية أو الجدل السياسي، أو في مستوى الح اصرة والمقاطعة، بل تخلّلت ذلك عمليات إجتياح واحتلال وتهجير وتشريد وهجمات واغتيالات وحروب، من الطرف الغربي ومن الجانب الإسرائيليكان العرب فيها المتضررَ الأبرز، ولم تكن عمليات العدوان وصدّه في ذلك التدافع العنيف متوازنةً بين الطرفين.
بروز ظاهرة العمليات الاستشهادية أو العمليات الانتحارية
لكن في ظلّ ذلك الصراع الذي طبع العقود الماضية، والذي ما أن يهدأ حتى يندلع مجددا، برزت ظاهرة العمليات الاستشهادية أو العمليات الانتحارية، بحسب توصيف الجهة التي تباركه أو التي تمقته، سلاحاً في قلب هذا الصراع. والفعلة التي يتمحور تنفيذها بالأساس حول فرد أو ثلّة آمنت بذلك الخيار، لطالما أقضّت مضجع الممسك بمقاليد القوة والمتحكم بمسرح عمليات التنفيذ.
لكن ظاهرة الاستشهاد الذاتي والإلقاء الإرادي بالنفس في مهاوي الردى، لم تنحصر في الخصم الخارجي والآخر فحسب، بل ارتدّت بفعل تطورات سياسية واجتماعية ألمت بالمنطقة نحو الأوساط الصادرة منها، ولم تعد تلك الأوساط بمنأى عن تشظّي آثار تلك الظاهرة، ما خلق جدلا واسعا بشأنها.
يحاول هذا البحث فهمَ ظاهرة خيار الإستشهاد الإرادي في الإسلام، وتحديدا في الأزمنة الحديثة، أكان في الأوساط السنّية أو الشيعية، العربية أو غير العربية. معتمدا الباحث في ذلك أدوات المنهج السوسيولوجي المقارن في تتبّع الظاهرة، من خلال التطرق إلى الموضوع في اليهودية والمسيحية أيضا، ليُقدّم الكتاب إطارا شاملا للشهادة ضمن خطاب الحركات الإسلامية المعاصر.
الإستشهاد الإرادي الحاصلة في التاريخ اليهودي
في القسم الأول من الكتاب، وهو عبارة عن مدخل تاريخي تمهيدي، ينطلق الباحث في معالجة الظاهرة من التراث العبري. فقد لاح سلاح خيار الموت الإرادي جليا في التاريخ اليهودي، حيث بدا الربي عقيبا بان يوسف علماً بارزاً بين المضحين بأنفسهم في سبيل عقيدة التوحيد وهو يردّد: “اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد” إلى حين لفظه أنفاسه. وتكثّفَ خيار الموت الإرادي مع الحقبة المُكابية، خلال القرن الثاني قبل الميلاد، في صراع يهوذا المكابي ابن الربي ماتاتيا الحشموني ضد السلوقيين. وقد تلخصت دواعي الصراع حينها في الإصرار على عقيدة التوحيد ورفض وثنية الإله زيوس المفروضة، حسب ما يورد الباحث، ولكن المسألة أبعد من ذلك التقييم وفق تقديرنا، كون الصراع في ذلك العهد ما كان دينيا فحسب، بل صراع هيمنة شاملة بمدلولها السياسي والاقتصادي لبِست لبوس الدين.
وضمن ذلك الإطار يستحضر الكاتب حوادث الإستشهاد الإرادي الحاصلة في التاريخ اليهودي اللاحق، مثل الإصرار على الإنتحار الجماعي في مسعدة (سنة 73م)، الذي يبرئه من تهمة الإنتحار الجماعي ويطلق عليه الإستشهاد الجماعي، إحدى الممارسات اللافتة في التاريخ اليهودي وقد أتت بعد ثلاث سنوات من تهديم الهيكل. أو كذلك ما حصل في ثورة باركوبكا ضد الرومان (132-135م)، ويربط الأمر بتراجع سلطة السنهدريم (مجمع الكهنة) على أنشطة الأطراف، وتضخّم نفوذ النِّحل والطوائف المناهضة للرومان، وهو ما تسبّب في تسليط عقوبة جماعية إنتهت بتهديم الهيكل. وقد قادت آثار هذه الأحداث الفرديّة والمستقلّة إلى فرض واقع الشتات على شعب إسرائيل، ليخلص الباحث إلى أن العمليات الإستشهادية في التاريخ اليهودي القديم، قد حصلت تحت وقع حماسة مفرَطة لمعتقد التوحيد دون مراعاة أوضاع الأكثرية، ما جرّ إلى تلك الكارثة، وهو ما ينطبق على الحالة الفلسطينية اليوم وفق تحليله. في الأثناء يذكر الباحث رأياً لموسى بن ميمون (1135-1204م) المتشدد بشأن خيار الإستشهاد الذاتي والقبول به في الحالات القصوى لا غير، ويرضى بدل ذلك بالخضوع والإذعان.
مفهوم الإستشهاد ضمن التراث المسيحي
وفي تناول الباحث المسألة ضمن التراث المسيحي، يبرز أن مفهوم الشهيد لم يخرج من مدلوله اللاهوتي إلى دلالة على صلة بالنضال السياسي والصراعات الإثنية سوى مع حقبة الإصلاح البروتستانتي، إبان القرن السادس عشر، لتشمل الشهادة أيضا كل من قضى نحبه لأسباب سياسية. وتبقى تضحية المسيح بذاته على الصليب – وفق المنظور الإيماني المسيحي- دالة وبارزة من زاوية إيمانية. وقد تتابع ذلك مع آباء الكنيسة الأوائل ممن لقوا حتفهم مثل ترتوليانس القرطاجي (ت. 225).
غير أن العصور الحديثة شهدت تحولا في دلالات مفهوم الشهادة، فمع الثورة الفرنسية خرج الإستشهاد من دائرة دينية إلى دائرة مدنية لائكية ذات بُعد دنيوي، وهو ما تمّ أيضا في ألمانيا، بهدف رصّ صفوف الوحدة الوطنية. وعلى إثر ذلك تحوّلَ الإحتفاء بالشهادة من مضامينه الدينية الأخروية إلى دلالات دنيوية عنوانها المجد والخلود للشهداء دنيويا واستدعاء تلك الفعلة في الأعياد والذكريات الوطنية الدورية.
سلاح الموت الإرادي في الديانات “المسالِمة”
ويبرِز الباحث ضمن الفصل التمهيدي أن الديانات “المسالِمة” أيضا، مثل البوذية والشنتوية لم تدخر جهدا في توظيف سلاح الموت الإرادي، إذ يمكن أن نجد ذلك حاضرا في تراث الساموراي، وهو ما برز جليا إبان مشاركة اليابان في الحرب العالمية الثانية، أو في حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي احتجاجا على الاحتلال الأمريكي.
القسم الثاني من الكتاب وهو ما حاز الجانب الأكبر، تركّز على جوهر البحث، أي تناول أبعاد المسألة في الواقع الإسلامي المعاصر. حيث يعتبر الباحث أن التنشئة الاجتماعية، والشّحن الثقافي المتأتي من الجماعة التي تعضد الشهيد في السير لتحقيق هدفه المنشود، والاستعداد الإرادي للتضحية بذاته وبلوغ مبتغاه، كل تلك العوامل تضافرت معاً في صنع المنفِّذ.
لعلّ الكاتب الإسرائيلي هنا يوجّه اتهاما مبطَّنا للحاضنة الجماعية بقوله، وبما يبرر تسليط العقوبة الجماعية ضد الفلسطينيين (ص: 117-123). ويعتبر مائير هاتينا أن الشهيد يبقى فاعلا ومؤثرا بعد مماته، من خلال الرصيد المعنوي الذي يخلّفه بين ذويه وأهليه وبين أفراد تنظيمه الحزبي. “فهو وسيلة فاعلة في توحيد الآراء وتعزيز أواصر الوحدة. وبمقدور الشهداء توحيد جماعاتهم، من خلال رص صفوفها وعضد مقاومتها” (ص: 170). حيث يقدّر الباحث أن ثمة أثرا سياسيا للشهيد في توحيد الصفوف يتخطى دائرة الحزب والتنظيم إلى العائلات السياسية المتخاصمة. كما يسهم استشهاده في تيسير استقطاب آخرين لتكرار الفعلة.
وهو ما تقابله الجماعة الحاضنة بإضفاء صورة ميثولوجية على الشهيد ذات أبعاد رمزية عالية، بما يثير حماسة عميقة في أوساطها. يقول عالم الاجتماع رونالد كاسيمار: “ليس الشهداء صنيعة قناعات وأفعال ذاتية فحسب، بل هم نتاج من رأوهم وذكروهم عبر رواية تاريخهم أيضا”.
سلاح المستضعَفين ضد المستكبِرين حين تضيق السبل
في محور آخر ضمن هذا القسم يعالج الكاتب الظاهرة في الواقع الراهن، مبرزا ما طرأ من تحول جذري على العمليات الإستشهادية بين أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين. فعلى سبيل المثال ما شرعنته الثورة الإسلامية الإيرانية في بداية سنوات الغليان الثوري بشأن دور الشهيد وفلسفة الشهادة (وهو ما تجلى في أدبيات المفكريْن الشهيدين مرتضى مطهّري وعلي شريعتي) باتت تتبناه الدولة، ما توجّهَ الأمر للعدو الخارجي المضطهِد للمسلمين والمغتصب لأراضيهم (في لبنان، وفلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان) بوصفه سلاح المستضعَفين ضد المستكبِرين حين تضيق السبل.
وإضفاء الشرعية على فعل الشهادة، تحت مبرر التخلّص من نير الاحتلال والدفاع عن الذات، راج حتى غدا منشودا لدى تنظيمات تبنّت العمل المسلَّح ضد المحتل، وإن كانت منطلقاتها علمانية أو لادينية. فعلى ما يذكر الباحث مائير هاتينا مثلا، لقيت بعض الأعمال الاستشهادية في الساحة الفلسطينة قبولاً أيضا لدى التنظيمات الثورية العلمانية (الجبهة الشعبية، والجبهة الشعبية القيادة العامة، والجبهة الديمقراطية).
تنظيم القاعدة حوّل فعلَ الشهادة إلى رسالة دعائية صادمة
ولكن ما حصل من تحول لافت مع موضوع الإستشهاد الإرادي، وفق الباحث، قد جاء مع تنظيم القاعدة. والمتمثل في التوجه بعمل الشهادة، ليس إلى العدو الخارجي البعيد فحسب، أو العدو المضطهد والمحتلّ لأراضي المسلمين، بل إلى حلفائه في الداخل من المسلمين، وهو ما أعطى غطاء شرعيا للعمليات داخل بلاد الإسلام بشكل لم يكن معهودا. ناهيك عن عدم مراعاة أخلاقيات الجهاد بالمفهوم المتعارف عليه في الإسلام، حيث يحيل الباحث على فتوى لبن لادن (1988) ينفي بموجبها وجود أبرياء مدنيين، كون الجميع مندرجين في آلية تنتمي إلى دائرة دار الحرب (ص: 222). وبموجب تلك المغالاة اللافتة حوّل تنظيم القاعدة فعلَ الشهادة إلى رسالة دعائية صادمة، من خلال إستغلال وسائل الإعلام الحديثة وترويج تسجيلات مثيرة ذات وقْعٍ عالمي.
وتحت عنوان “صراع التأويلات بشأن العمليات الإستشهادية” يتناول الباحث الجدل الحاصل في الأوساط الإسلامية حول جواز التضحية بالذات من عدمه. مستهلا حديثه بمحاولة الإمساك بخيوط التبرير الفقهي من عدمه بخصوص العمليات الاستشهادية، دون غوص مفرط في تعليلات الضوابط الفقهية. حيث ينطلق من بعض المواقف الفقهية الكلاسيكية مثل موقف ابن رشد (ت. 1198م) وشروط الشهادة والمشاركة في الجهاد لديه مثل السنّ والوضع الأسري ومدى الخطورة المحدقة، بناء على أن المؤمن لا يلقي بنفسه إلى التهلكة حين يلاحظ الفارق البيّن مع الخصم. كما يذكر في السياق نفسه موقف حديثا لشيخ الأزهر محمود شلتوت (ت. 1963) في حصره واجب الجهاد في ثلاث حالات: رد الYعتداء، والدفاع عن بيضة الإسلام ورسالته، وحماية المسلمين في أرض غير إسلامية.
إنزياح الموقف العام صوب الرفض الأخلاقي للعمليات الإستشهادية
ليلاحظ الباحث إنزياح الموقف العام في الوقت الراهن صوب الرفض الأخلاقي للعمليات. فقد حاول بعض الفقهاء وضع ضوابط لهذه الممارسات حتى لا تتحول إلى ممارسات فوضوية. حيث كتب الشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين “فقه العنف المسلح في الإسلام” سنة 2001، في محاولة لضبط قواعد هذه الممارسة وبيان الحكم الشرعي فيها بعد أن لاحظ التوظيف المفرط للمخزون التراثي، حتى غدت كربلاء، في الأوساط الشيعية، عنصرا محوريا في البنثيون الثوري للشيعة المعاصرة. وقد برز الجدل بشأن العمليات الإستشهادية في البلاد الإسلامية، خصوصا بعد نشأة الجماعات المستقلة بمرجعياتها في الفتوى، ما جعل العمليات الاستشهادية تشكّل خطرا على الأمن العام والسلم الاجتماعية لبعض البلدان العربية والإسلامية. إذْ ما بقيت الدولة محتكرة إضفاء المشروعية على ممارسة العنف وحدها، في ظل الهشاشة الأمنية في بعض المناطق، بل زاحمتها الحركات المنفلتة، ما جعل المؤمن عرضة لصراع التأويلات القائم بين الطرفين بشأن العمليات الاستشهادية. وما عمليات الإستقطاب إلى صفوف تنظيم داعش والإلتحاق به سوى دليل واضح على عمق صراع التأويلات الذي لم يحسم بعد، ليبقى التحمّس للإستشهاد الإرادي قويا داخل أوساط سلفية مثل تنظيم داعش.
لعل الإنتقاد الأساسي الموجه للبحث في تجنب صاحبه الغوص في ملامسة المثيرات الحقيقية لظاهرة الإستشهاد في الواقع العربي الحديث، الذي يرزح تحت فواعل مباشرة تتمثّل أساسا في الإحتلال الإسرائيلي. إذ ليست الظاهرة بمنأى عن مولّداتها، فهناك إنفصال بين رصد الظاهرة فينومنولوجياً وتغييب عوامل منشئها سوسيولوجياً في الكتاب. غياب ذلك الغوص في تحليل منشأ الظاهرة وتشكلها، والإقتصار على رصد آثار تنفيذها وما تخلّفه من مواقف متباينة، يطرح أحيانا مصداقية البحث العلمي وموضوعيته في دراسة التوترات الحاصلة في عالمنا. سيما وأن هذا البحث وغيره يأتي مدعوما ماديا ودعائيا من قِبل جهات مثل الجهة الداعمة والممولة للبحث “المؤسسة الإسرائيلية للعلم” (ISF) كما يصرح الباحث في مقدمة بحثه.
* أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا.
“الشهيد في الإسلام الحديث. الورع والسياسة والسلطة”، تأليف مائير هاتينا، منشورات أوبارو (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’، 2019، 400 صفحة.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك