عندما يترك الرئيس المؤقت السابق محمد المنصف المرزوقي العنان لتفاعلاته الشخصية ويسيء لرئيس الدولة وأعضاء الحكومة الذي جاؤوا على متن الشرعية الديمقراطية، ويشوه سمعة البلاد في وسائل الإعلام الأجنبية، فإنه يخل بواجب التحفظ، وينتهك قيم الديمقراطية، ويعطي تبعا لذلك صورة سيئة للمسار الديمقراطي الناشئ في بلادنا.
بقلم مصطفى عطية *
عندما يغادر السياسيون في البلدان الديمقراطية المتقدمة مراكز ومواقع السلطة، إستجابة لنتائج الإنتخابات وشروط التداول السلمي على الحكم، يغيبون عن الساحة نهائيا أو ينضمون إلى المعارضة، وفي الحالتين يلتزمون ب”واجب التحفظ”.
هكذا هي الديمقراطية، لكن الحال عندنا مختلف تماما، فأغلب الذين غادروا كراسي النفوذ أخلوا بٱلتزاماتهم القانونية والأخلاقية وٱنساقوا في متاهات ردود الفعل الهستيرية بلا ضوابط وفي انتهاك صارخ لواجبات التحفظ والمحافظة على أسرار الدولة، فسقطت أقنعتهم “الديمقراطية” تباعا، ليكتشف الشعب زيف الشعارات التي طالما لوحوا بها.
لقد تحول التنافس السياسي إلى تصفية حسابات شخصية فجاءت تصريحاتهم ومواقفهم لتؤكد أنهم أبعد ما يكون عن قيم الديمقراطية وٱلتزامات مسؤوليات الحكم.
تأملوا في هذا الدرس
ما زلت أتذكر جيدا تلك الواقعة المعبرة التي حدثت ذات يوم شتائي من أواخر سنة1991، كانت خيوط الشمس تتسلل، بٱحتشام، من وراء السحاب فتبعث ببعض الدفء والإنتعاش، وكنا مجتمعين على مائدة الغذاء بالمركز الثقافي الدولي بالحمامات مع المشاركين في إحياء ذكرى فقيد السياسة والثقافة المرحوم حمادي الصيد، وكان من بينهم الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، والوزير اليميني الفرنسي فرانسوا ليوتار، الذي كان وقتها صاحب حقيبة وزارية في حكومة ما سمي ب”التعايش” بين اليمين واليسار، خلال الولاية الثانية للرئيس الإشتراكي فرانسوا ميتران.
كان فرانسوا ليوتار، كما أغلب الوزراء اليمينيين، في تلك الحكومة “المزدوجة” يكن “عداوة سياسية” مكشوفة لفرنسوا ميتران، وقد تزامنت مشاركته في هذه التظاهرة مع بلوغ تصعيد الإشتراكيين الفرنسيين ضد النظام التونسي ذروته القصوى، الشيء الذي شجع أحد الوزراء التونسيين الحاضرين على تحريض فرانسوا ليوتار على رئيس بلاده بقوله : “متى سيرحل هذا الرئيس الأحمق”!!
جاء رد فعل فرنسوا ليوتار مخالفا لكل توقعات الوزير التونسي إذ إكفهر وجهه وٱستبد به غضب شديد وهو يردد بصوت مرتفع : “لا أسمح لك بذلك… وليس من حقك التدخل في شأن يخص الفرنسيين وحدهم… ثم هو، في نهاية الأمر الرئيس المنتخب، قد نختلف معه، طولا وعرضا، لكن لا نطعن في شرعيته ولا نسيء لشخصه ورمزيته “!
لم يكتف الوزير الفرنسي بذلك بل كتب تقريرا لحكومته التي تحركت بقوة مثيرة “زوبعة ديبلوماسية” مع تونس، أطفأها الرئيس بن علي بإقالة الوزير الذي كان ضحية إنفلاته العاطفي !
التنافس السياسي لا يبيح إنتهاك رمزية الدولة ومن يمثلها
تعمدت سرد تفاصيل هذه الواقعة لأنها محملة بالعبر والدروس التي نفتقدها في سلوكنا السياسي الراهن، فالتنافس، ومهما إشتدت حدته، لا يبيح إنتهاك رمزية الدولة ومن يمثلها، وإلا لم يعد للحرية معنى وللديمقراطية وجود، فعندما يترك الرئيس المؤقت السابق محمد المنصف المرزوقي العنان لتفاعلاته الشخصية ويسيء لرئيس الدولة وأعضاء الحكومة الذي جاؤوا على متن الشرعية الديمقراطية التي طلما نادى بها، ويشوه سمعة البلاد في وسائل الإعلام الأجنبية، فإنه يخل بواجب التحفظ ، وينتهك قيم الديمقراطية، ويخون ما كان يعتقد أنها مبادئ يتبناها، ويعطي تبعا لذلك صورة سيئة للمسار الديمقراطي الناشئ في بلادنا.
كذلك الشأن بالنسبة لبعض وزراء حكومتي الترويكا الأولى والثانية الذين لم يستسيغوا سقوطهم وأحزابهم في الإنتخابات ومغادرتهم لمواقع السلطة والنفوذ، فكثفوا من التصريحات الإستفزازية المخلة بكل المواثيق والقيم والإلتزامات القانونية والأخلاقية.
لم تكن هذه التصرفات فردية ومعزولة، كما يسعى البعض إلى الإيهام بذلك، وإنما هي من صميم مفاهيمنا الخاطئة للديمقراطية والحرية وقيم الممارسة السياسية، والتي غذت مظاهر الفوضى والإنفلات في كل القطاعات وٱستباحت هيبة الدولة ومؤسساتها وعلوية القوانين وسلطان الأخلاق، وفتحت، تبعا لذلك الأبواب واسعة أمام الفوضويين والإنتهازيين والمخربين وأصحاب الأجندات الداخلية والخارجية المشبوهة لتنفيذ مخططاتهم في نسف المسار الديمقراطي بالبلاد، وزرع الفتن القبلية والعشائرية والجهوية والطبقية والعقائدية بين أفراد الشعب.
إن المسألة على غاية من الخطورة في هذا الظرف العسير الذي تمر به البلاد، وتتطلب من التونسيين الكثير من اليقظة والتأهب لمواجهة هذه المخاطر التي تهدد أمنهم وٱستقرارهم ومسار ديمقراطيتهم.
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : لم يبق أمام الشعب إلا أن يرشق بأحذيته “النواب” الذين أمعنوا في “التحرش” به !
للتأمل فقط : صراع الأجنحة في الجبهة الشعبية، من سيطيح بالآخر، المنجي الرحوي أم حمة الهمامي؟
شارك رأيك