ليس من باب التهرّب من المسؤولية الذاتية التذكير بما للمناورة الغربية الدائمة ضد الإسلام من وقع لزرع التزّمت وتنميته في هذا الدين بتذكية كل ما فيه من خلاف واختلاف لتوسيع الهوة وتعميقها بين الأطراف المسلمة نفسها، وبينها وبين الغرب، في نطاق حرب دينية خفية بين الإسلام واليهومسيحية.
بقلم فرحات عثمان *
لا يجب أن ننسى قيام الحضارة الغربية على الموروث اليهودي والمسيحي؛ ما يعني أن عقدة معاداة الإسلام ظلت متجذرة في المتخيل الغربي بما خلقته فيه من مركّبات إزاء الحضارة العربية الإسلامية عند ظهورها المفاجىء، ولمدى روعتها حين كان الغرب في ظلمات شبيهة بظلمات الإسلام اليوم.
فبصفة واعية أو غير واعية، هو يعمل على دوام هذه الحال حتى لا يعرف يوما مصيرا مماثلا للإمبراطورية البيزنطية، وذلك لما يختزنه التراث العربي الإسلامي التليد من طاقات من شأنها التفجر عاجلا أم آجلا، خاصة في صفوف شبابه. هذا ما يفسّر حرصه على المشاركة في غسل دماغ الشبيبة، سواء في تزمت إسلاموي ضد الغرب، إلى حد حثّه على الإرهاب، أو تزمت معاكس ينتصر للفكر الغربي ولطريقة عيشه، إلى حد الانسلاخ من جلدته فالإنبتات.
تدخّل الغرب في شؤون الإسلام
إن الغرب، بخلاف الشرق في أوج حضارته، يتدخل بصفة متواصلة ومقيتة في شؤون البلاد الإسلامية ليمنع أي تغيير بها للأفضل؛ والعولمة التي تميّز عالمنا اليوم تزيد هذا التدخل فُحشا وخطورة. هذا، ونحن نعلم جيّد العلم أن الإسلام لم يتدخّل في الشؤون الداخلية اليهودية ولا المسيحية، خاصة عند بداية زمن النهضة مع الأنوار بالغرب وبوادر الديمقراطية.
أما اليوم، فالغرب يعمل جاهدا بصفة مستدامة لمنع مثل ما حصل لديه من إصلاح ديني تم بصفة حرّة مستقلة، وذلك بالنفاذ المتواصل للشأن الداخلي لبلاد الإسلام. وفي إمبرياليته الذهنية هذه، أقسى ما يسمح به الفكر الغربي ليس إلا إستنساخ ما حدث ويحدث عنده بحذافيره، بما فيه، وبالأخص أخطاؤه، لأجل مواصلة الهيمنة من الزاوية الفكرية؛ إذ من المعلوم أن الإحتلال اليوم هو، أولا وقبل كل شيء، ثقافي وذهني.
هذا يتم اليوم في نطاق تحالف غربي مع الإسلام المتزمت، كما حدث بتونس وبلاد ما سُمّي بالربيع العربي؛ وليس هو إلا تحالف رأسمالي إسلاموي متوحش همّه، من ناحية، المصالح الجيوستراتيجة والرأسمالية الغربية، ومن ناحية أخرى، نهم الحكم والغنية عند الإسلام المتزمت وهواجس فرض قراءته الفاسدة للدين باعتلاء سدة الحكم والبقاء بها، كلّفه ذلك ما كلّفه.
وما يزيد هذا الإحتلال خطورة أن الغرب يعتمد فيه علي ما يمكن تسميته بالطابور الخامس، وهم أهل الثقافة المتغربين والمنبتين الذين لا يرون الحداثة إلا بعيون غربية، ناسين حداثة العرب أو ساهين عنها، وهي ما أسمّيه بالحدثة التراجعية rétromodernité. بذلك، هم لا ينتبهون إلى أن الحداثة الغربية في هذا الزمن انطفأت أنوارها من جرّاء إفحاشها في المادية وغلوّها فيها، الشيء الذي خلق هذا العالم المركنتيلي المتوحش القائم على الماضي وتوظيفه اعتمادا على إنبهار النخب به في بلاد الجنوب.
الطابور الخامس للمتغّربين
ما من شك أن الإسلام السياسي لا نفوذ له البتة على العقل الجمعي بالأرضين الإسلامية بدون الدعم الذي يحظى به عند هذا الغرب، وما يدرّ عليه من أموال دافقة في لعبة مشينة وتجارة فاحشة بتعاليم الإسلام. وبديهي أن من مصلحة الإمبريالية هذه بقاء الإسلام على حالته المزرية اليوم حتى لا يستعيد ما له من قدرات لإحياء رونق الحضارة التي ميّزت تاريخه.
هذا ما يسعى جاهدا لمنع حصوله باسم حماية مصالحه، خاصة وأنها أصبحت مادية صرفة، مغالية في المادية، في زمن عودة الروحانيات التي تتميّز بها الحقبة الزمنية الحالية، زمن ما بعد الحداثة الموسوم باتحاد التقانة فيه مع العتاقة. ولا خير من داعش للتدليل على هذا التناغم، أو ما يُنشر من كتب تراثية موجهة للجماهير في أحداث تاريخية مستغلة إستغلالا أيديولوجيا فاحشا.
إن مسؤولية النخب المتغرّبة لكبيرة، إذ يعتمد الغرب عليها بكل الوسائل، ومنها طبعا شراء الذمم بطاقاته المالية التي لا حد لها، أو بالمغالطة بشعارات جوفاء أُفرغت من مضمونها، وبالعمل في الخفاء على دوام الحال التعيسة على مستوى الحقوق والحريات بالبلاد الإسلامية وذلك بفرضه الحكام المقزّمين من طرفه على شعوبها، أو بالإطاحة بمن لا ينضوى تحت لواء مصالحه الرأسمالية.
هذا ما حصل ويحصل بتونس إذ إنتصر الغرب، ممثلا في المحتل الفرنسي، للحبيب بورقيبة فسانده ضد عبد العزيز الثعالبي، الإسلامي المستنير؛ ثم ساند ديكتاتورية بن على قبل أن يتخلى عنه بعد إبرام التحالف بينه، ممثلا في الزعيم الأمريكي للعالم الحر، والإسلام المتزمت باسم حريات شكلية لا محتوى لها على مستوى حقوق الشعب وحرياته الفردية المحسوسة على أرض الواقع.
ونحن نواصل المعاينة اليوم ببلاد المغرب العربي لمسعى الرأسمال الغربي المتوحش في فرض الإسلام السياسي لخدمة هيمنته الإقتصادية في جعل البلدان المغاربية سوقا لبضاعته بعد الحصول من الحلفاء المسلمين الساعين في خدمته على توفير الذخيرة البشرية لعملياته القذرة بساحات الحرب مستغلين الدين لغاياته وغاياتهم، مع القبول لأجل ذلك، ومن هذا وذاك، بالإستهتار بالقيم وبأرواح الأبرياء، ضحايا الإرهاب الذي من شأن هذه السياسة الهوجاء إفرازه وتنميته لا محالة.
* ديبلوماسي سابق و كاتب.
المقالات السابقة :
حديث الجمعة: بذور التزمت الإسلامي بتونس (2): مسؤولية الزيتونة والإسلام الرسمي
حديث الجمعة : بذور التزمت الإسلامي بتونس (1): لائكية الحبيب بورقيبة
شارك رأيك