غاب مصطفى بن جعفر عن الساحة السياسية، أو قل غيبوه قسرا، وقلت إطلالاته حتى كاد يدخل دائرة النسيان إن لم نقل دخلها وإستقر في ظلماتها، وفجأة تسلل أخيرا من أحد أركانها القصية وأدلى بتصريح إستفزازي مفاده أن عودة الدساترة إلى الحكم بقيادة عبير موسي سيتسبب في حرب أهلية !
بقلم مصطفى عطية *
ليست هذه المرة الأولى التي يطل فيها مصطفى بن جعفر من وراء كثبان النسيان ليدلي بتصريحات صادمة، إذ يتذكر التونسيون جيدا، وما بالعهد من قدم، أنه كان في مقدمة المحتجين على قانون المصالحة بتصريحاته الإستفزازية ذات النبرة الشعبوية يرافقة في ذلك مشاغبو ما يسمى بروابط حماية الثورة التي تم حلها وكانت تنشط في إطار غير قانوني.
يقول أصحاب الألسن الخبيثة، في تلك الفترة، وأقوالهم ذات مصداقية أحيانا : عندما علم مصطفى بن جعفر بأن حركة النهضة تساند قانون المصالحة تملكته رغبة جامحة في الإنضمام لمظاهرة “مانيش مسامح” التي منيت بفشل ذريع، إذ هو لم يغفر لها تخليها عنه في الفترات الحاسمة والمصيرية لذلك لم يترك فرصة توفرت له إعلاميا أو منبريا أو شارعيا إلا وٱنهال عليها نقدا وٱنتقادا بٱعتبارها كانت، حسب زعمه، سببا في إرتقائه إلى رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، سيء الذكر، والذي جاء لمدة سنة فرزح على قلوب التونسيين طيلة ثلاث سنوات ثقيلة ومرهقة وكارثية بكل المقاييس، شهدت خلالها البلاد إنزلاقا خطيرا في الفوضى والإنفلات والإنخرام الأمني مما ساهم في ظهور التنظيمات الإرهابية ولوبيات التهريب
حسابات خاطئة وتقلبات عشوائية
بدأت تحركات مصطفى بن جعفر لٱستهداف حليفته ” الكبرى” قبل موعد الإنتخابات الرئاسية الفارطة (2014) بأسابيع قليلة، عندما رفضت قيادة الحركة دعمه كمرشح “توافقي”، حسب المبادرة التي أعلنت عنها ولم تلق آذانا صاغية من الأطراف الأخرى، واختارت مساندة حليفها الآخر، الذي تمرد عليها هو ايضا، المنصف المرزوقي.
كانت تحركات مصطفى بن جعفر ضد حركة النهضة في تلك الفترة بمثابة “النيران الصديقة” قبل أن تتكثف بعد هزيمته منذ الدور الأول لتلك الإنتخابات وبطريقة مخجلة ومهينة، فحتى المرشح الشعبوي صاحب الشطحات الفلكلورية الهاشمي الحامدي تحصل على أكثر أصوات منه!
لم يغفر مصطفى بن جعفر لحركة النهضة تخليها عنه وٱنطلق يكيل لها الإنتقادات اللاذعة، مناقضا ما كان يصدح به على منبر المجلس الوطني التأسيسي والمنابر الإعلامية بالداخل والخارج، طيلة سنوات عديدة، وهو ما كلفه إندثار نسبة كبيرة مما كان يتحلى به من مصداقية لدى أنصاره وأتباع حزبه، أليس هو الذي قال “أنجزنا أحسن دستور في العالم” وهو الدستور الذي فرضته حركة النهضة بالأغلبية التي كانت تتمتع بها في المجلس وبمساندة حزبي الترويكا الآخرين، التكتل الذي كان يتزعمه، والمؤتمر الذي كان يقوده غريمه ومنافسه على “حنان” حركة النهضة المنصف المرزوقي ؟
حمل مصطفى بن جعفر، في أول منعرج له، حركة النهضة مسؤولية كل الأزمات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية التي حلت بالبلاد في تلك الفترة متناسيا أنه كان شريكها الأساسي في الحكم ونصيرها القوي في المجلس الوطني التأسيسي، والمنفذ لمقترحاتها ومبادراتها والملمع لصورتها في وسائل الإعلام الداخلية والخارجية، ثم صعد من هجوماته كلما سنحت له الفرصة حتى وصل إلى حد التشكيك في شرعية مصادر تمويلها لمؤتمرها العاشر داعيا إلى التدقيق في هذه المسألة، كما أبدى إحترازا واضحا على نتائج ذاك المؤتمر وخاصة في ما تعلق بفصل الدعوي عن السياسي والقطع مع تنظيم الإخوان المسلمين، ثم تتالت عمليات إستهدافه للحركة ورموزها بطريقة ممنهجة وكلما سنحت له الفرصة.
خيبة الأمل عصفت بكل أحلام وآمال مصطفى بن جعفر
لكن ها هو الحنين إلى أحضان النهضة يعاوده من جديد ممتطيا صهوة كيل الإتهامات للحزب الحر الدستوري بقيادة عبير موسي، الخصم اللدود للحركة الإسلامية ، وٱعتبار مواقفها من راشد الغنوشي وجماعته وقودا “لحرب أهلية” !!!
من حق مصطفى بن جعفر أن ينقد وينتقد، ومن حقه أن يغير مواقفه متى شاء، ولكن ليس من حقه إلقاء التهم الخطيرة على الآخرين لتأمين تموقعاته التي لا تنتهي. فالإنتقاد والتنصل من المسؤوليات والهروب من مواجهة الحقيقة سهل لكن الشجاعة السياسية هي طريق السياسيين الكبار للمحافظة على مصداقيتهم، وهو ما لم يفعله مصطفى بن جعفر، كما لم يفعله حليفه السابق وغريمه ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا، منصف المرزوقي، إن كان مازال لهما مستقبل.
كانت خيبة الأمل قد عصفت بكل أحلام وآمال مصطفى بن جعفر، وكان الإحباط كبيرا وثقيلا عليه وهو في هذا السن المتقدم فترك العنان للمرارة تنهشه.
يعرف مصطفى بن جعفر أنه خسر كل شيء على المستوى السياسي واندثرت حظوظه في العودة إلى الساحة نهائيا، ولم يبق له إلا بعض المحاولات اليائسة لإثارة الإنتباه عسى أن تسلط عليه الأضواء من جديد، شأنه في ذلك شأن المنصف المرزوقي والهاشمي الحامدي وأحمد نجيب الشابي وغيرهم.
من الهجومات على حركة النهضة إلى معاودة التملق لها
لا شك أن أقصر طريق لإثارة الإنتباه هو إنتقاد الأحزاب المهيمنة سياسيا وشعبيا أو الصاعدة على الساحة وإطلاق التصريحات الإستفزازية، والمشاركة في المظاهرات الفاشلة ولكن هذا الطريق على قصره، محفوف بالمخاطر ومليء بالفخاخ وهي التي وقع فيها مصطفى بن جعفر دون أن يقرأ لذلك حسابا.
لم تتحسن صورة مصطفى بن جعفر بعد سلسلة هجوماته على حركة النهضة ومشاركته مع روابط حماية الثورة المنحلة في مظاهرة “مانيش مسامح” ولن تتحسن بمغازلته الجديدة للغنوشي وجماعته عبر كيل الإتهامات لعبير موسي وحزبها الصاعد، بل إزدادت وستزداد سوءا لأنه غير مؤهل لإعطاء الدروس بعد الفشل الذي مني به على جميع المستويات.
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : طراطير بجلابيب “ديمقراطية لٱنتهاك هيبة الدولة والسيادة الوطنية !
للتأمل فقط : مسيرة أحمد نجيب الشابي وأوحال اللهاث المحموم وراء سراب السلطة !
للتأمل فقط : حمادي الجبالي “يبشركم” بترشحه للإنتخابات الرئاسية وإقامة الخلافة السادسة !
شارك رأيك