السيدة عبير موسي برزت بشخصها كفرد وليس في صورة الحزب الدستوري الديمقراطي وهو ما يجعل منها مركز ثقل هذا الحزب لتصبح بذلك هدفا يسهل على خصومها محاصرته أو إستهدافه من أجل إسقاط الحزب والإجهاز عليه. كيف يمكن تجاوز نقطة الضعف هذه ؟
بقلم الأسعد بوعزي *
من المعروف في علم الفزياء أن مركز ثقل كلّ جسم أو كتلة (centre de gravité) هي تلك النقطة التي يكون مجموع كلّ القوى المارّة منها مساويا للصّفر وهو ما يجعل الجسم مستقرّا في مكانه. ومن المعروف أيضا أنك كلّما حرّكت مركز الثقل من مكانه إلاّ وفقد الجسم توازنه ليتدحر أو يتهاوى.
وقياسا على هذه القاعدة، فإن العديد من النظريات العسكرية تقوم على نفس المبدأ إذ لا يختلف المنظرون منذ زمن “سون سو” (500 ق. م) الى يوم الناس هذا على Hن أفضل الإستراتجيات التي تضمن الغلبة على العدوّ هي تلك التي تقوم على البحث عن مركز ثقله وضربه قصد إضعافه أو القضاء عليه. وإن الأمثلة في ذلك كثيرة لعلّنا نذكر منها هتلر وصدّام حسين والقذافي الذين كانوا يمثّلون مركز ثقل أنظمتهم إذ كان القضاء عليهم كافيا لتسقط بلدانهم بأكملها.
خير مثالا لنا في تونس حزب نداء تونس الذي كان مركز ثقله مجسّما في السيد الباجي قايد السبسي وكلّنا نعلم أن هذا الحزب سرعان ما تفكك بمجرّد مغادرة مؤسسه مبنى البحيرة الى قصر قرطاج قبل أن يحرص على نقل مركز الثقل الى هيئات منتخبة قادرة على المحافظة على الحركة وضمان التوازن السياسي في البلاد.
وفي هذا الإطار، فإن المتتبّع للشأن العام في بلادنا لا يفوته أن يلاحظ الإختراق المذهل الذي سجلته السيدة عبير موسى على الساحة السياسية حتّى أصبحت تشغل بال التونسيين على إختلاف توجهاهتم وإنتماءاتهم وتجمع حولها العديد من المحبّين لها والمتعاطفين معها والناقمين على الأحزاب التي خذلتهم وغدرت بهم والخائفين من هيمنة الإسلام السياسي بعد تفّكك نداء تونس وعدم قدرة ما تبقّى منه على رفع التحديات.
ومن الملاحظ أيضا أن السيدة موسي برزت بشخصها كفرد وليس في صورة الحزب الدستوري الديمقراطي وهو ما يجعل منها مركز ثقل هذا الحزب لتصبح بذلك هدفا يسهل على خصومها محاصرته أو إستهدافه من أجل إسقاط الحزب والإجهاز عليه.
بعد مناقشة الحيثيات التي جعلت من السيدة عبير موسي مركز ثقل حزبها سوف نتعرض الى السّينارهوات المحتملة لعرقلة مسيرتها قبل أن نختتم بما يمكن فعله من ناحيتها حتّى تنجح في تركيز الأضواء على حزبها والتعريف بأهدافه وبرامجه وهو ما من شأنه أن يزيد من إشعاعه ويحدّ من التهديدات التي تتربص بها وتخفّف من الضغوطات المسلّطة عليها.
1. الحيثيات التي جعلت من الأستاذة موسي مركز الحزب الدستوري الحر:
إن الحيثيات التي جعلت إسم الحزب الدستوري الحر يكاد يُختزل في إسم السيدة موسي تتلخص في ثلاثة عوامل أساسية ساعدت على أن تصبح هذه المرأة أيقونة الحزب وقوّته ورأس حربته وعنوانا للذين فقدوا الثقة في السياسيين الذين تداولوا على حكم البلاد منذ 14 جانفي 2011:
– العامل الأول يتعلق بالخصال الذاتية لهذه المرأة وهي تتمثل في التجربة وقوّة الشخصية ورباطة الجأش والإرادة ونظافة اليد والحضور الذهني وقوّة التركيز والإلمام بالشأن العام والحضور الميداني وهي كلّها خصال لا بدّ لها أن تتوفّر في القائد لينجح في مسيرته.
إن تجربتها وإن كانت قصيرة صلب التجمع الدستوري الديمقراطي ساعدتها على المبادرة بإعادة هيكلة حزبها وتنظيمه منذ تولّيها رئاسته خلال المؤتمر التأسيسي الذي إنعقد بتونس يوم 13 أوت 2016. ولعلّ هذه التجربة هي التي ساعدتها ايضا على صياغة القانون الداخلي للحزب الذي حرصت فيه على أن يخوّل لها من الصلاحيات ما يضمن تماسك الحزب وعدم إختراقه.
أما في ما يتعلق بقوّة الشخصية ورباطة الجأش والإرادة فيكفي المتتبّع لمسيرة هذه المرأة ان يشاهد بعض التسجيلات المرئية مثل ذلك الفيديو الذي يوثّق الإعتداء عليها داخل قاعة جلسة محاكمة التجمع الدستوري الديمقراطي (2 مارس 2011) أو الذي يُظهر الهجوم الذي تعرضت له صحبة مناضلي الحزب بمناسبة تدشينها لمقرّ تنسيقية سيدي بوزيد (31 مارس 2019) ليقف على مدى قدرة هذه السّيدة على التحكم في أعصابها ومحافظتها على الهدوء والتصرّف السليم على ضوء تقديرها للمواقف الطارئة.
أما إلمامها بالشأن العام وتحلّيها بالحضور الذهني وقوّة التركيز فإن ذلك يتجلّى في قدرتها على الإقناع وحذقها للمناورة لتجنّب الفخاخ التي يحرص محاوروها من الإعلاميين على إيقاعها فيها وعدم التشنّج والإنفعال مهما كان التهجّم والإستفزاز وهذا ما كان له ان يكون لولا تمكّنها من الفصاحة والنباهة والثقافة العالية.
الحضور الميداني هو ميزة أخرى لهذه المرأة الشّابة التي دأبت على التنقّل الى مختلف جهات الجمهورية والإلتقاء بالمواطنين في المدن والقرى من أجل تثبيت مقرّات حزبها والتعريف به وإستقطاب قواعده.
أمّا ما يتعلق بنظافة اليد فإن السيدة موسي ما أنفكّت تؤكد على أنها لا تعوّل على رجال الأعمال الفاسدين لتمويل حزبها بل تعوّل على طيف واسع من التونسيين الذين آمنوا بمشروعها كما انها ترفض المال السياسي مهما كان مصدره ومأتاه.
– أمّا العامل الثاني فإنه يتعلق بالإرث الدستوري الذي يمثّل مرجعية الحزب الدستوري الحرّ مثلما يوحي به شعاره “حفظ الأمانة وإستمرار الرسالة”. وفي هذا الإطار، فإن السيدة موسي تحرص على أن تكون المؤتمنة على هذا الموروث عبر كامل مراحله والحاملة لرسالته. وترسيخا لهذا الشعار فهي تحرص أيضا شديد الحرص على إحياء هذا الإرث وتخليد ذكراه والتمسّك بالفكر البورقيبي الدّاعي الى التحرّر والدّاعم للنظام الجمهوري والمعادي للتطرّف والرّافض للخلط بين أمور الدين والدولة.
ولعلّ مثل هذه الإستماتة في الدفاع عن الإرث الدستوري هي التي جعلت منها منارة للعديد من الدساترة والتجمّعيين من الذين أحسّوا بالضّيم بعد حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي ولكلّ الغيّورين على الفكر البورقيبي خاصة لما لاحظوه من حملات للتشكيك في صدق الزعيم ونزاهته والعمل على طمس تاريخه وإنجازاته.
– أمّا العامل الثالث والأخير فهو يتعلّق بالظرف الزمني الذي ضهر فيه الحزب الدستوري الحر والذي يتزامن مع تغيير حكومة الحبيب الصيد (2016) بعد إعلان فشلها في إخراج تونس من أزمتها كما يأتي ايضا في مرحلة التوافق بين النهضة والنداء وهو توافق أصاب غالبية عظمى من الشعب التونسي بالإحباط لِما رأت فيه من إنقلاب السيد الباجي قايد السّبسي على ناخبيه.
إن بروز عبير موسي على الساحة السياسية يأتي أيضا في وقت أحسّ فيه الشعب التونسي بالمسّ من سيادته وبمبادئ نظامه الجمهوري وبنهب امواله وثرواته وهي لعمري التّهم نفسها التي حُوكم من أجلها التجمّع الدستوري الديمقراطي وتمّ حلّه بمقتضاها.
وبمرور الوقت وبحكم ما شهدته حكومة السيد يوسف الشاهد من تدهور للإقتصاد وتنامي للتهريب والإرهاب وتفشّي البطالة والفساد وغلوّ المعيشة وتقهقر الدينار وإندثار الطبقة الوسطى من المجتمع فإن العديد من التونسيين أصبحوا يرون في السّيدة موسي المنقذ المنتظر للبلاد بعدما فقدوا الثقة في كلّ الأحزاب السياسية ورجالاتها.
لا شكّ أن كلّ هذه الخصال والصفات جعلت من السّيدة موسي رمزا للعديد من التونسيين فمنهم من يسمّيها “بإبنة بورقيبة” لتشبثها برؤيته وبفكره وبسيرها على خطاه في ما يتعلق بإلإتصال المباشر بالشعب. ومنهم من ينعتها بالمرأة الحديدية لصلابتها وثباتها على مبادئها ومنهم من يشبّهها باللّبوة لما لها من قدرة على المزج بين القوّة والذكاء للتغلّب على خصومها.
وإن كانت هذه الخصال تخدم مصلحتها وتجعل منها رمزا لدى العامّة، فإن هذا الرمز قد يضرّ بالحزب بما ان السيدة موسي أصبحت تشكّل مركز ثقله (centre de gravité) إذ يصعب على المرء أن يسمّي أحدا من الديوان السياسي غيرها.
وبما أن إشعاعها أصبح يمثّل تهديدا جدّيّا لخصومها على الساحة السياسية وهو ما تؤكده عمليات سبر الآراء، فلا غروَ أن يتكتّل هؤلاء الخصوم من أجل الكيد لها لغاية إضعافها أو إسقاطها وبالتالي الإجهاز على طموحات حزبها.
2. السينارهوات المحتملة لعرقلة السيّدة عبير موسي؟
إن السّناريوهات التي يمكن تطبيقها لعرقلة الصعود المطّرد للسيدة موسي وإطفاء شعلتها عديدة ومتنوعة نذكر بعضها في ترتيب تصاعديّ حسب إمكانية وقوعها (probabiité) ومدى خطورتها (gravité):
– المحاصرة الإعلامية: هذا السيناريو تمّ تنفيذه منذ أن بدأت رئيسة الحزب الدستوري تسجّل حضورا جدّيا على الساحة السياسية حيث تمّ مقاطعتها إعلاميا من طرف الوسائل السمعية والبصرية العمومية منها والخاصّة ما دفع الحزب الدستوري الحر الى الإعتماد على شبكات التواصل الإجتماعي للتعريف بأنشطته.
هذا السيناريو سرعان ما أثبت فشله خاصّة بعد نجاح عبير موسي في حشد الجماهير في إجتماع صفاقس وهو ما ساعدها على لفت إنتباه الرأي العام والبروز في عمليات سبر الأراء وجلب إهتمام بعض القنصليات الأجنبية.
– الشيطنة والتشويه: نفس وسائل الإعلام التي كانت تقاطع السيدة موسي وتحاصرها أصبحت تتسابق على إستضافتها لا من أجل تلميع صورتها والتعريف بحزبها بل من أجل تعجيزها وإستفزازها والإيقاع بها وشيطنتها بدعوى أنها إقصائية تسعى الى إعادة الإسلاميين الى السجون ومنع الحجاب.
مثل هذه الشيطنة أصبحت متداولة من طرف بعض الأيمّة والمواقع الألكترونية المشبوهة. ولمّا تفطنت السيدة موسي الى ما يّحاك لها من طرف الوسائل الإعلامية حاولت أن ترسل ممثلين عنها لتلبية الدعوات الموجهة إليها غير ان هذه الوسائل أصبحت تتمسّك بحضورها شخصيّا بدعوى أن لا أحد غيرها قادر على تحقيق نسبة المشاهدة التي تحققها.
وتجدر الإشارة في هذا المجال الى أن حملات التشويه والشيطنة لم تعد تقتصر على وسائل الإعلام بل تجاوزتها لتصبح الشغل الشاغل للخصوم السياسيين الذين اصبحوا يتهمونها بالفتنة وتقسيم التونسين بل فيهم من حذّر من مغبّة أن تقود البلاد الى حرب أهلية.
– الإندساس والخديعة: الإندساس داخل الحزب ومحاولة زعزعته على غرار ما تمّ بالنسبة لنداء تونس هو أخطر سيناريو يمكن أن يهدّد الحزب الدستوري الحرّ. تجدر الإشارة الى أن بعض القيادات من الصفّ الاوّل حاولت إن تنقلب على السيدة موسي بتعلّة مصادرة هذه الأخيرة للحزب وإنفرادها بالقرار غير أن المخطّط تمّ إجهاضه برفت المندسّين من الديوان السياسي.
– إستعمال ورقة القضاء: إن إمكانية لجوء بعض الجهات إلى القضاء من أجل عرقلة السيدة موسي والحدّ من طموحات حزبها في ما يتعلق بالإستحقاقات المقبلة تبقى واردة جدّا. تجدر الإشارة في هذا المجال الى أنه سبق لها أن حُوكمت في قضية من أجل تهمة الإعتداء بالعنف على زميل لها يوم محاكمة التجمع الدستوري الديمقراطي سنة 2011 كما أنها موضوع قضية لا تزال منشورة لدى المحكمة من أجل تهمة التهرّب الضريبي.
– اللّجوء الى العنف: من المنتظر ان يلجأ خصوم عبير موسي الى العنف لمنع أنشطتها على غرار ما تمّ في سيدي بوزيد يوم 31 مارس المنقضي خاصّة وأن قدرة هذه امرأة على الحشد والتعبئة والتنظيم والتسيير أصبحت تؤرّق خصومها ولعلّ المسيرة التي قادتها من باب سويقة الى القصبة يوم 9 أفريل بمناسبة إحياء ذكرى شهداء السيجومي خير دليل على ذلك.
– التصفية الجسدية: في ظلّ التهديدات الأمنية التي تشهدها بلادنا خاصّة بعد عودة الجهاديين من بؤر التوتّر وما يجري في ليبيا من صراعات وتناحر على حدودنا الجنوبية فإن كلّ الإحتمالات تبقى واردة بما فيها الإغتيالات السياسية على غرار ما تمّ سنة 2013. من المنتظر أن تجري الحملة الإنتخابية للإستحقاقات المقبلة على صفيح ساخن وقد تخرج عن السيطرة ما لم يتمّ تحييد المساجد وتفكيك العصابات الإجرامية التي بدأت تظهر على شاكلة رابطات حماية الثورة وعلى غرار تلك العصابة التي تبنّت الهجوم على مناضلي الحزب الدستوري الحر بسيدي بوزيد وهو هجوم إعتبرته السيدة موسي يندرج ضمن مخطط لإغتيالها.
3. ما يستوجب على السيدة موسي فعله من باب الحيطة والحذر:
لا شكّ أن السيدة عبير موسي قطعت شوطا كبيرا في تركيز حزبها وتثبيته داخل الجمهورية وخارجها وقد بانجحت في أن تصبح رقما صعبا في المعادلة السياسية. وتحسّبا لكلّ طارئ يمكنه أن يحدث لغير صالحها من الضروري أن تتّخذ الإجراءات التالية:
– نقل مركز الثقل الى الديوان السياسي عوضا عنها وتعيين ناطق رسمي بإسم الحزب وممثلين لها من التكنوقراط ومن ذوي الإختصاص وهو ما من شأنه ان يخفّف الضغط عليها ويعرّف ببرنامج الحزب خاصّة وأن الحملة الإنتخابية على الأبواب،
– تجنّب كثرة الظهور في المنابر الإعلامية وإنتقاء البرامج الهادفة والقنوات التلفزية والإذاعات التي تتّسم بالحدّ ألأدنى من الحياد والنزاهة،
– الإعتماد على مستششارين أكفّاء وعلى مركز للبحوث والدراسات بما يساعد على أخذ القرار ويمكّن الحزب من نظرة إستشرافية،
– بعث خليّة للإعلام تعرّف بالحزب وبأنشطته وبرامجه،
– النأي بالحزب عن التحالفات والتكتّلات للمحافظة على الإنضباط داخله وسدّ المنافذ أمام المندسّين والمخرّبين،
– السّهر على تأمين التنقلات والتجمعات والمسيرات وتجنّب المغامرة أو إتخاذ خطوات غير محسوبة.
خلاصة القول أن نجاح السّيدة موسي في تحقيق مشروعها السياسي يكمن في مدى قدرتها على نقل مركز ثقل حزبها من شخصها كفرد الى الديوان السياسي كمجموعة. عليها ان تعِي أنها تعمل وتناور في بيئة معادية لها ومصلحة الحزب مثل مصلحة أيّ مؤسسة تقتضي تقاسم المهامّ والأدوار والعمل ضمن مجموعة متجانسة لحشد الجهود وجمع القوى. ما من شكّ أن نجاح تونس من نجاح الحزب الدستوري الحر خاصّة وأن بروزه يأتي في وقت تشهد فيه البلاد إنخراما في التوازن السياسي بعد تفكّك نداء تونس وهو ما ينذر بهيمنة الحزب الواحد.
* ضابط بحرية متقاعد.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
بروز عبير موسي على الساحة السّياسية: هل هو ظاهرة عابرة أم حقيقة راسخة؟
تدهور الوضع الإجتماعي في تونس : أسباب التردّي وكيفية تجنّب الكارثة
السّلفية الجهادية في تونس: نشأتها وأسباب تناميها وإمكانية إحتوائها؟ (3-3)
شارك رأيك