الحوكمة الرشيدة في قطاع المالية العمومية ومكافحة الفساد لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود جهاز رقابي لاحق للتصرف في المال العام ممثلا في محكمة المحاسبات وهو ما أكدت عليه الدراسة التي قامت بها المنظمة الدولية للشفافية فيما يخص تعزيز نظام النزاهة الوطني في تونس.
بقلم فوزي عبيدي
هذا المكسب الوطني يجب تعزيزه عبر إدخلال التعديلات اللازمة على القانون الأساسي الخاص بمحكمة المحاسبات المطروح على مجلس نواب الشعب منذ سنة 2016 والذي تمت المصادقة عليه أمس الثلاثاء 16 أفريل 2019. من الضروري الإلتفات إلى الجوانب والعراقيل التي تحول دون نجاح هذه المؤسسة الرقابية لأن القانون الأساسي وحده غير كاف بل تتطلب عوامل عديدة للنجاح في المهمة المنوطة بعهدتها.
قانون أساسي يحمل عديد الإيجابيات
بعد أن كانت تسمى دائرة المحاسبات أحد فرعي مجلس الدولة الذي يرجع بالإشراف إداريا وماليا إلى السلطة التنفيذية جاء دستور 2014 ليعطي نقلة نوعية لهذا الجهاز حيث تم تصنيفها كإحدى مكونات السلطة القضائية فقد نص الفصل 117 من الدستور على “أن محكمة المحاسبات تختص بمراقبة حسن التصرف في المال العام وفقا لمبادئ الشرعية والنجاعة والشفافية، وتقضي في حسابات المحاسبين العموميين، وتقيم طرق التصرف وتزجر الأخطاء المتعلقة به، وتساعد السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية على رقابة تنفيذ قوانين المالية وغلق الميزانية”.
لترجمة هذا التمشي تم إعداد مشروع قانون أساسي منذ سنة 2016 متعلق بضبط إختصاصات محكمة المحاسبات وتنظيمها والإجراءات المتبعة لديها وجاء هذا القانون بعديد الإيجابيات لتعزيز موقعها كهيئة قضائية وكجهاز أعلى للرقابة يعمل على تحقيق الإستعمال الأمثل والمشروع للأموال العمومية وفقا لمبادئ الشرعية والنجاعة والشفافية والمساءلة والنزاهة كما يكرس القانون في جوانبه المتعلقة بتنظيم هيئات محكمة المحاسبات وإجراءاتها القضائية مبادئ المحاكمة العادلة التي نص عليها الفصل 108 من الدستور وخاصة منها حق التقاضي والدفاع وضمانات التقاضي على درجتين وعلنية التصريح بالحكم التي لم تكن موجودة من قبل.
كما إعتمد القانون في صياغته المعايير الدولية للأجهزة العليا للرقابة التي تشترط إستقلالية هذه الأجهزة بأبعادها الوظيفية والعضوية والإدارية والمالية ضمانا لحسن سيرها. من جهة أخرى وقع سن عديد الأحكام الجديدة التي تهدف إلى إعطاء قضاة المحكمة ضمانات وصلاحيات ومقومات العمل الضرورية.
نقائص يجب تلافيها في القانون الجديد
أولا يجب التنصيص على آليات للرقابة على أعمال وقرارات محكمة المحاسبات كغيرها من الهيئات والمؤسسات الأخرى بما يمنع تغولها وإستعمالها كأداة ضغط خارج الإطار الذي تم تركيزها من أجله كما لا يوجد فصل واضح بين القضاة المراقبين والقضاة الذين سيصدرون الأحكام بما يجعل نفس القاضي طرف وقاض في نفس القضية على عكس ما هو معمول به في القانون المقارن وخاصة القانون الفرنسي.
من جهة أخرى لم يتعرض القانون إلى المتدخلين العموميين في مجال المالية العمومية بل إقتصر على دور المحاسب العمومي بدرجة أولى ثم في درجة ثانية آمرو الصرف حتى أن الإنطباع الأولي عند القراءة الأولى لفصول القانون تجد أن القانون أعد خصيصا لمراقبة المحاسبين العموميين دون غيرهم لكن حلقة التصرف في الأموال العمومية أشمل من ذلك وتضم أطرافا أخرى لم يتعرض لها القانون مثل مراقب المصاريف العمومية ومراقبي الدولة بالرغم من دورهما الهام والكبير في مجال التصرف في المال العمومي ولكن لا يخضعان لرقابة محكمة المحاسبات وإقتصرت الرقابة فقط على المحاسب العمومي وآمر الصرف.
من جهة أخرى عدم وجود توازن في العقوبة المسلطة بين المحاسب العمومي وآمر الصرف وذلك نتيجة عدم وجود توازن في تجريم خطأ التصرف الصادر عن المحاسب العمومي وبين العقوبة المالية المستوجبة والمسلطة على هذا الأخير والتي هي في الواقع مشطة وموغلة في العقاب مقارنة بالعقوبة المسلطة على آمري الصرف.
في نفس الإطار لم يتضمن مشروع القانون ما يفيد براءة ذمة المحاسب العمومي كتابيا مثلما هو الأمر عند تعمير ذمته وفقا لمبدأ توازي الصيغ و الأشكال للإجراءات القانونية.
من جانب آخر يجب تدعيم صلاحيات القاضي الذي يباشر التحقيق والمراجعة من خلال التمتع بحق الضابطة العدلية فيما يخص الملفات التي يباشرها من حق حجز الوثائق والملفات اللازمة لإكمال التقارير الخاصة بالرقابة أو لإثبات التجاوزات التي يتفطن لها القاضي وهذا الأمر لم يشر له القانون بصفة واضحة.
كما أن القانون ركز على الجانب الإجرائي والرقابي لمحكمة المحاسبات وأغفل الدور الأساسي الذي تقوم به هذه الدوائر ضمن الدول المتطورة في مجال التصرف الإداري الحديث في المالية العمومية فتعطي بعد أشمل فليست المراقبة الغاية منها العقاب فقط لأخطاء التصرف والإستئثار بالمال العام بل الغاية كذلك هي تحسين منظومة التصرف نحو النجاعةو تلافي الثغرات في هياكل المنظومة ككل ويكون ذلك بضرورة التنصيص خاصة على مخرجات التقارير النهائية حيث يجب أن يتم التنصيص على مراجعة التقارير من قبل مختلف الوزارات والهياكل الإدارية المعنية لعدم تكرار الأخطاء خاصة الناتجة عن ثغرات هيكلية في منظومة التصرف فالملاحظ عند مراجعة تقارير دائرة المحاسبات في السنوات الفارطة هي التكرار الدائم لنفس الأخطاء وتقريبا في نفس الوزارات ونفس الإدارات وبنفس الكيفية وهذا يمكن تلافيه بإلزام لجان التفقد ولجان التدقيق والتقييم التي سيتم إرساؤها ضمن منظومة التصرف حسب الأهداف بأن تتعهد تلقائيا بعد صدور كل تقرير عن دائرة المحاسبات بمراجعة منظومة التصرف في الوزارة المعنية لتحييد أكثر ما يمكن من أخطاء تصرف.
كما أن هذا القانون طرح صيغة العلاقة بين محكمة المحاسبات ومحاكم الحق العام في إطار أفقي يحكمه الإختصاص حسب القوانين المنظمة لكل طرف ولكن يجب الذهاب بهذه العلاقة إلى علاقة تعاون في مجالات محددة وهذا يتطلب تحضير قانوني، ذلك أن في عديد القضايا المطروحة في المحاكم العدلية تخص التصرف في الأموال العمومية وهذا يتطلب تكوين ودراية كبيرة بمبادئ المالية العمومية والقوانين المعقدة في هذا المجال ولكن ليس هناك طرح قانوني يمكن المحاكم العدلية من إيجاد أشكال تعاون مع محكمة المحاسبات التي تعتبر الجهة الوحيدة التي تكتسب فيها الدراية الكاملة والآليات اللوجستية للتحقيق في هذا النوع من القضايا .
ضرورة الدعم المادي واللوجستي لدور فعال للمحكمة في الجهات
إن الإطار القانوني يساهم بالفعل في تحسين أداء المحكمة ومباشرة التحقيقات ولكن لا يكفي لوحده بل ضرورة وجود دعم مادي ولوجستي كاف خاصة بدعمها بالموارد البشرية عن طريق إلحاق الموظفين من بقية الوزارات التي تعاني اكتظاظ كبير، من جهة أخرى توفير الوسائل اللوجستية الضرورية للممارسة الدور الرقابي كالأنظمة المعلوماتية وخاصة بمزيد إحداث دوائر جديدة بالجهات الداخلية التي تعاني من ظواهر عديدة للفساد وسوء التصرف كذلك لا بد من إعطاء أكثر إستقلالية من حيث الموارد المالية و إتخاذ القرار لهذه المؤسسة الدستورية.
شارك رأيك