كيف لنا اليوم أن نفسر ما يجري في تونس وما تواجهه مسيرتنا وما يحياه شعبنا بنخبه الفاعلة ومواطناته ومواطنيه؟ دون أن نضيع في متاهات الظرفي و الجزئي وما يحدث من جوانب هامشية و عرضية كيف لنا أمام ضبابية طاغية أن نبني رؤية شمولية قادرة على إخراجنا من دائرة الدوران في الحلقات المفرغة والنظر من الزوايا المغلقة؟
بقلم محمد فوزي معاوية *
لا شك وأن تحقيق ذلك ليس بالأمر السهل ومع ذلك نسوق إليكم هذه الملاحظات الخمس علها تساهم في توضيح الرؤية.
أولا الأزمة عالمية ولكن ذلك لا يخرجنا من المسؤولية.
إن الأزمة عالمية بأبعادها المختلفة، الإقتصادية والإجتماعية، وكذلك السياسية بما تواجهه الديمقراطيات التمثيلية من إشكالات ورفض وعزوف. إنها أزمة عالمية اكتسحت جل مناطق العالم إلى هذا الحد أو ذاك وفي أغلب الأحيان ولدت توجهات إنحرافية شعبوية وشوفينية تدعو إلى الصرامة، حتى أن بعض المختصين تحدث عن “البونبارتية الجديدة”، وهو ما يضع تجربتنا التونسية أمام تحديات محلية شديدة الإرتباط بما يحدث من تحولات خارجية لا بد من أخذها بعين الإعتبار ولكن دون إستعمالها للتنصل من مسؤولياتنا جميعا وخاصة من هم في السلطة بحكم ما لديهم من مجال هام للتدخل.
ثانيا مثال التنمية السابق إستوفى فعاليته تلك هي الحقيقة الأساسية.
أزمتنا ليست ظرفية مهما كانت الإخفاقات الحاصلة منذ مدة في تناولها ومعالجتها لأنها بالأساس أزمة مثال تنموي تميز بنجاحاته في ما سبق لكنه إستوفى صلاحياته ولم يعد مجديا منذ آخر عشرية وجوده فلقد أكد عجزه لا في أسلوب حكمه المتسلط فحسب بل وأساسا في العمل على فتح أفق جديدة للتنمية بمفهومها الشامل و في الإجتهاد لإقامة تحولات نوعية أصبحت ضرورية للمحافظة على المكتسبات وفسح المجال للتجديد والإبتكار، و هو ما أدى الى الجمود وإلى التراجعات و استفحال الطابع “الريعي” و”المانح” لدولة منغلقة في صبغتها الأمنية المهيمنة، ولقد ساهم ذلك في فقدان التوازنات الإجتماعية وفي حصول التصدع واندلاع الإنتفاضة التى أصبحت إنطلاقا من 2011 مسارا يريد لنفسه مهما كانت التدخلات الأجنبية أن يكون “ثورة”، وهو بصدد مواصلة هذا المسعى وسيستمر في ذلك حسب اعتقادنا ولكن النجاح في إضفاء هذه الصبغة ليس مضمونا فهناك قوى متعددة رافضة لهذا التوجه من الأصل.
ثالثا “ثورة” بلا رؤية وغليان سياسي فاقد للخصوبة “؟
فمنذ 2011 يطفو على سطح التعطل التنموي، كرؤية و كإرادة في نفس الوقت، حراك سياسي و غليان وتجاذبات ما فتئت تستفحل، وهي، إذا ما استثنينا مخاطر الإنحرافات التى يتزعمها الإسلام السياسي و هي موجودة و فاعلة، تدور في حلقات مفرغة لقلة نضج اغلبية القيادات الصاعدة وإلى إستمرارية تأثير قوى الشد إلى الوراء وإلى خوف من تفتحت بصيرته ولو نسبيا من الدخول في مسار يستدعى إجتهادا وتجديدا وابتكارا وما يقتضيه من مبادرة تقوم خاصة على قوة الإيمان والشجاعة التى لا تولدها إلا الروح الوطنية العالية والإيمان بقدرات الشعب. ولقد ساهم هذا التناقض في انتشار مغالطات حاسمة كتلك التى لا تربط كثافة الضبابية السياسية الحاصلة والصراعات الهامشية الطاغية بغياب هذه الرؤية الشمولية للتنمية وضرورة فسح المجال لبناء نمط جديد لها على أنقاض نظام استوفى مقومات إستمراريته و بقائه.
رابعا ” المحافظون اليوم في السلطة و في المعارضة.
لذلك أصبحنا اليوم نجد تناقضات جديدة تشق المجتمع و”الطبقة” السياسية قائمة على ما أشرنا اليه ومنها طغيان تيار “المحافظين” ولكن بأوجهه المتعددة في مقدمته “التيار الإيديولوجي الديني” والمقصود هنا الإسلام السياسي الذي لا مشروع إصلاحي له مع التأكيد بأن الإصلاحي هو الثوري اليوم في إعتقادنا، فهذا التيار لا يطرح قضية التنمية لا من من قريب و لا من بعيد لانخراطه في مفهوم بال لليبرالية في حد ذاتها قائم على فسح المجال لكل ما هو غير مهيكل وهامشي وتغييب خطير لدور الدولة إيمانا منه بأن احتلال المساجد كاف للتحكم في المجتمع (فوضى التدافع الإجتماعي).
ولكن هنالك “محافظون” صاعدون يمثلهم ذلك التيار الراغب في العودة إلى النظام القديم وفق إيمان زائف شديد الإرتباط بالمصالح الضيقة للمجموعة المستفيدة أيما إستفادة من الدولة ” الرعية / المانحة” بما وفرت لهم من إمتيازات دون موجب حق وهم اليوم يتسترون بمخاطر إضمحلال الدولة و غياب الرجل الصارم القادر على فرض الإنضباط ولكن إنضباط من و لفائدة من ؟
خامسا الإنتظارية القاتلة لنخبنا القادرة على الفعل.
لا شك و أن المرحلة ورفع التحديات القائمة شديد الإرتباط باقتناع عموم التونسيات و التونسيين بالمشروع و لكنه بالأساس شديد الإرتباط بدور النخب الفاعلة لا السياسية فحسب بل والإقتصادية و الإجتماعية والثقافية التى أصبح أمامها خياران إما استمرار أغلبيها في “الإنتظارية” والخوف من المجازفة الواعية والمدروسة التى تفتح أبوابا فعلية أمام التحولات النوعية بنفس جديد يقوم على بناء “عقد وطني تاريخي” يحدد قواعد التوجهات الجديدة على أساس التناصف في تقديم التضحيات والحزم في مواجهة المفسدين الساعين إلى تخريب كل الإنجازات و المكتسبات، أو المواصلة في خمول لا يمكن له إلا أن يعطي للأزمة أبعادا مدمرة وحينها لن تكون الإستفاقة الا متأخرة فتهدر فرصة تاريخية فتحت أمامنا لنواصل ريادية أكتسبناها بفضل شجاعة وتضحيات أجيال تعاقبت في خدمة هذا الوطن العزيز.
* ناشط و محلل سياسي.
شارك رأيك