لا شك أن اللعن غير غريب عنا في تاريخ الإسلام، بما أن ابن عم الرسول، الخليفة الراشد الرابع، وقع لعنه طويلا على المنابر من طرف الحكام الأمويين. إلا أنه ولأول مرّة يقع اليوم بتونس لعن الخلفاء الراشدين برمّتهم باسم الموضوعية التاريخية، وذلك في كتاب التونسية هالة الوردي في أول روايتها من سلسلة بالفرنسية عنونتها: «الخلفاء الملعونون».
بقلم فرحات عثمان *
كنّا بيّنا في آخر قولنا من أحاديثنا عن بذور التزمت الإسلامي ببلادنا مسؤولية الغرب والمنبتّين من اللائكيين المسلمين في تنامي هذا التزمت في الإسلام التونسي؛ وها نحن نعاين مثالا حيا عن هذه المسؤولية المشتركة بالكتاب المذكور الذي يتنزّل في خانة حملة شعواء يقودها الغرب ضد الإسلام وأهله باسم الحقيقة التاريخية بينما لا تعدو أن تكون من جنس الحملات الصليبية، سلاحها فكري في قراءة موجهة للتاريخ الإسلامي، مشوهة لروح الدين ومقاصده.
تهجم رخيص باسم الحقيقة:
طبعا، لا تهمنا كثيرا شراكة الغرب مع الإسلام المتزمت في حملاته التشويهية اليوم لدعم تمركزه العسكري والمركنتيلي ببلاد الإسلام وقد حولها إلى ساحات حرب وأسواق لبضاعاته؛ فمن البديهي أن مصالحه تقتضي إستغلال كل الفرص واستعمال من يسعى في ركابها ويقبل بخفر ذمّته لأجل مصالحه الذاتية؛ وهذه حال أهل الإسلام الأدعياء، الإسلام المتزمت، هذه الجاهلية الجديدة.
إلا أنه من الواجب الأخلاقي عدم غض النظر عما يقترفه في حق هذا البلاد وحق دين شعبها المتنورون من نخبها ممن لعلهم يبيعون، ولا يشعرون، ضمائرهم خدمة لمصالح الغرب في سعيه المهوس لنسف حضارة الإسلام باسم الإنتصار لمبادىء سامية أُفرغت من محتواها في قراءة تاريخية تدّعي الموضوعية بينما هدفها تشويه الحقائق فيه رغمإعتدادها بالتزام الحياد ظاهريا.
فلا شك أن كل مفكّر أو باحث سليم النية من بين أهل الفكر في بلادنا يندد مثلنا بمن يعتقد سذاجة، في صفوف النخب، أنه يخدم بلاده ودينه بالتنديد بماض مسكوت عنه، بينما هو على خطأ فاحش في ذلك إذ لا يشعر بأنه، في أفضل الحالات، ليس إلا الشريك الموضوعي لأعداء الإسلام خارجيا، من أهل اليهومسيحية، أو داخليا، من حلفائهم أصحاب إسلام التزمت. فهذا الإسلام الدعي لا تقوّي شوكته اليوم، علاوة على الدعم الذي يلقاه من هؤلاء الغربيين، إلا هذه الهلوسة المعادية للدين الإسلامي عند اللائكيين من أهله الذين لا يقاومون التزمت في الحقيقة، بل يساندونه بتنديدهم الأهوج بدين كان حضارة عالمية وبأعلامه بتعلّة الحقيقة التي يُراد بها الكذب والباطل.
والكتاب الذي نحن بصدده له أفضل الدليل على ذلك إذ يتنزّل في خانة التهجم الرخيص على الإسلام بدعوى سرد التاريخ. فهذه الرواية الآتية في حلقات، والتي تتبع أخرى سبقت في الأيام الأخيرة للرسول، لا تحترم الموضوعية العلمية كما هو بيّن من عنوانها المستحوى من رواية شهيرة بلغة موليير في تاريخ ملوك فرنسا القدامى؛ فمتى بلغ خلفاء الإسلام فحش ملوك فرنسا إلى حد لعنهم؟
مناورة صليبية بسلاح التاريخ:
لنقل بادىء ذي بدء أننا لا نشك في حسن نية مواطنتنا هالة الوردي؛ إلا أننا نبيّن أنها قبلت وضع اسمها على مشروعٍ رفضه غيرها من أهل الفكر والتاريخ، أي تبنّي هذا المشروع العدائي للإسلام والمسلمين الذي هو بحق المناورة الصليبية الفكرية المذكورة بسلاح التاريخ.
بدأت المناورة هذه بصفة محتشمة مع رواية «آخر أيام الرسول»؛ وهي تكشف القناع، مع الكتاب الثاني، عما لا يمكن إلا نعته بالمؤامرة المحمومة لأجل التأثير على الناشئة واغتصاب ذهنها إذ لا تعلم من تاريخها شيئا، خاصة وأن أهل التزمت يغالطون ويخادعون فيه. فلئن نعاين بأول كتاب من هذه السلسلة كيف أن هم صاحبته الظاهر هو رواية التاريخ كما هو بما فيه من فظاعة، نحن سرعان ما نقف على غاية الرواية الباطنة، وليست هي إلا إيذاء الإسلام وزعزعة تعلّق أهله به؛ ولا شك أن عنوان السلسلة يكفي تبيانا عن سمومها تلك: الخلفاء الملعونون!
فمتى أصبح اللعن، وهو مطية الكاذبين، أداة لتقريب التاريخ الأصيل من الأفهام دون محاولة لغسل الأدمغة؟ متى كان الكلام النزيه في التاريخ سبا وإثارة لأحاسيس المؤمنين ممّن يقدّس هؤلاء الحكّام؟ أليست الموضوعية وضرورة الحياد العلمي تلزمان الحرص على إختيار الألفاظ حتى لا تثير حفيظة المتلقّين لهذا التأريخ دون السكوت عما فيه من مساوىء لفتح المجال للتفكير والتخمين؟ أقول هذا عن وعي وتجربة بما أني سبقتُ الأستاذة هالة الوردي بخمس سنوات على الأقل في الكتابة في الغرض نفسه؛ إلا أني قمت بذلك حسب الأصول العلمية، مع إحترام تام للمشاعر وللحقيقة التاريخية، فكان عملي في نطاق مشروع هادف، بيداغوجي وعلمي، يحترم أصول السرد التاريخي.
نعم، أصدرتُ سنة 2015 بالدار البيضاء، عن أفريقيا الشرق، رواية تاريخية بالفرنسية أيضا، في أربعة فصول هي التي تفصّلها سلسلة رواية هالة الوردي «الخلفاء الملعونون». فلا شيء من الحقائق التاريخية ينقص كتابي ولا كل ما يتحدث عنه كتاب الخلفاء الملعونون، إلا أنه في «بدايات الإسلام، شذرات لامعة ومظلمة من خلافة الرسول»، وهو عنوان روايتي، حرصت على آداب المهنة في سرد الأحداث التي واكبت خلافة الرسول. مع العلم أن الترجمة العربية للكتاب جاهزة بعد وتصدر قريبا بإذن الله.
بما أن هذا الكتاب والآخر الذي ينتقده باللغة الفرنسية، نعود للحديث عن كليهما على هذا الموقع في نسخته الفرنسية وذلك في كنش يوم الأحد القادم. فلا بد من التصدّي باسم النزاهة العلمية والأصالة في رواية التاريخ لمثل هذه الحملة الصليبية التي يسمح بعض أهل الفكر بتونس المشاركة فيها. فهم لا ينتبهون للضرر الحاصل لهم وللأخلاقيات التي ينتمون إليها ويعتقدون فيها، ومنها أخلاق الإناسة التي تقتضي الإمتناع عن المساس، بالسب واللعن، بمعتقدات الآخر إحتراما له، دون السكوت بالطبع عن واجب قول الحقيقة من باب كلمة السواء المتوجّبة والنزاهة الموضوعية الضرورية!
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حديث الجمعة: بذور التزمت الإسلامي بتونس (3): مناورة الغرب ومسؤولية المتغربين
شارك رأيك