الباجي قائد السبسي، سليل المدرسة البورقيبية العلمانية، حريص جدا على ارتداء اللباس التقليدي في الأعياد والمواسم الدينية والمناسبات الوطنية، والإستشهاد بالآيات القرآنية، أما راشد الغنوشي فيخلع جبة الشيخ ويردي اللباس الإفرنجي وربطة العنق، حتى يخرج من الإطار التقليدي للزعيم الإسلامي، ويقدم نفسه كقيادي سياسي متفاعل مع كل التونسيين.
بقلم مصطفى عطية *
روى لي أحد المقربين من الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أنه إستقبل ذات يوم أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى يتقدمهم رئيسه، في تلك الفترة، المرحوم التهامي نقرة، وقد إرتدوا جميعا اللباس التقليدي التونسي، الجبة وما تابعها والعمامة الحمراء ! سأل بورقيبة التهامي نقرة عن علاقة الإسلام بهذا النوع من اللباس، فأجابه هذا الأخير : “نحن نقتدي بك سيدي الرئيس فقد عودتنا على إرتداء اللباس التونسي التقليدي كلما أشرفت على موكب ديني”. ضحك بورقيبة بٱستهزاء وأجابه : “يبدو أنك لم تفهم وظيفة رجل السياسة في البلدان العربية والإسلامية الذي من واجبه إيهام الناس بأنه يتبنى مظاهر معتقداتهم وإلا كفروه “.
“اللوك” الجديد للشيخ راشد الغنوشي
تذكرت هذه الواقعة ، ذات البصمة البورقيبية الخصوصية والمتفردة ، وقد اضطرم الجدال، أخيرا، حول ” اللوك” الجديد لزعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، الذي دأب في الأشهر الأخيرة على الظهور في إطلالاته الإعلامية، وآخرها تلك التي تلت لقاءه برئيس الجمهورية في قصر قرطاج، بلباس إفرنجي وربطة عنق دأب الإسلاميون المتشددون على ٱعتبارها ترمز في شكلها للصليب وينصحون بعدم إرتدائها .
يقول المثل الفرنسي المتداول “اللباس لا يصنع الراهب”، بمعنى، في السياق التونسي، ليس كل من إرتدى جبة شيخا ولا كل من غطت رأسها بخمار أو نقاب هي إمرأة متدينة، والعكس بالعكس، فالسافرة ليست بكافرة، واللباس الإفرنجي بما فيه ربطة العنق لا يعني الإلحاد والخروج عن الملة !
ومازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ بصورة بدت صادمة بعد حراك الرابع عشر من جانفي 2011 وتتمثل في جلوس غلاة اللائكيين، بجبابهم وعماماتهم، في رحاب جامع الزيتونة بمناسبة إحياء ذكرى دينية، إلى جانب قادة حركة النهضة الذين تعمد أغلبهم إرتداء اللباس الإفرنجي ! فاللائكيون حاولوا إيهام التونسيين بأنهم “متدينون”، والإسلاميون سعوا إلى التأكيد على أنهم “مدنيون” ! لكن الشعب التونسي لم يغتر بما كانوا يفعلون ولم تنطل عليه المسرحية الإستعراضية المزدوجة .
الباجي يستهدف المتدينين والغنوشي يستهدف اللائكين
لا شك أن وراء القادة السياسيين، طواقم متمرسة من خبراء الإتصال، سواء تونسيين أو أجانب، يعملون على إظهارهم في مواقف مثيرة للإنتباه ومنسجمة مع أهواء الناس المستهدفين إنتخابيا بالخصوص، فالباجي قائد السبسي، سليل المدرسة البورقيبية العلمانية، حريص جدا على ارتداء اللباس التقليدي في الأعياد والمواسم الدينية والمناسبات الوطنية، والإستشهاد بالآيات القرآنية، كما كان يفعل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة تماما، أما راشد الغنوشي فقد نصحه طاقمه الإتصالي بأن يخلع جبة الشيخ ويردي اللباس الإفرنجي وربطة العنق، حتى يخرج من الإطار التقليدي للزعيم الإسلامي، ويقدم نفسه كقيادي سياسي متفاعل مع كل التونسيين مهما إختلفت مرجعياتهم ونباينت معتقداتهم، فإن كان الباجي يستهدف المتدينين فإن الغنوشي يستهدف اللائكين في إطار الصراع الطبيعي على كسب الأنصار والظهور بمظهر الشخصية الموحدة للشعب التونسي .
إلى حد هنا تبدو المسألة عادية جدا ولا تتحمل الكثير من التأويل، لكن الظروف التي تعيشها البلاد وما رافقها من إشاعات حول نية راشد الغنوشي الترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة، طبقا للإتفاق الباريسي، الحاصل بينه وبين الباجي قائد السبسي، حرك سواكن محترفي التأويل والتنبير، وذهبوا في مساعيهم هذه مذاهب شتى، ورتبوا الأحداث والوقائع على أساس ما يعتمل في أذهانهم من سيناريوهات موغلة في الخيال.
لا يعني هذا أن ظهور راشد الغنوشي باللباس الإفرنجي وربطة العنق، تلقائي، وخال من الدلالات والرسائل المشفرة للداخل والخارج، خاصة وأن الضغوطات الدولية على تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي تتكثف وتشتد من يوم لآخر، لكن لا يجب أن نعطي للمسألة كل ذاك الزخم من التأويلات.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك