بدأ العد التنازلي للإنتخابات التشريعية والرئاسية بفتح الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات أبواب التسجيل لهذين الإستحقاقين الوطنيين الهامين، لاسيما بالنسبة لمن “يحلم” بإحداث تغييرات جذرية في موازين قوى وخارطة المشهد السياسي بتونس. لكن الواضح أن حركة النهضة ستكون المستفيد الأول والأخير من تشرذم العائلات السياسية الأخرى و غباءها السياسي.
بقلم: سنيا البرينصي
هذه الخارطة يصح الإصطلاح عليها وفق سياقات التراكمات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية التي طبعت تعرجات المشهد الوطني ما بعد أحداث 14 جانفي 2011 ب “المهترئة”.
البلاد إذن على مرمى حجر من الإنتخابات التشريعية والرئاسية التي قد ينتظر منها الساسة وأصحاب المعالي والمناصب الكثير من ” الشهد والبلح”، مقابل عزوف وإحباط المواطن البسيط الذي قد لا يعترف بجدوى إجراء الإنتخابات أصلا، فهي وفق اعتقاده، وكما في أغلب البلدان العربية، لن تغير من واقعه شيئا…ومع ذلك لنبقى متفائلين.
في ظل هذا الحراك الإنتخابي المستعر من طرف الأحزاب السياسية، مصحوبة ب “قائماتها المستقلة جدا” إذن، وبعيدا عن إنتظارات وإبستيمية وسيكولوجية الناخب، لا سيما في المناطق المسحوقة، ما يلاحظ وما يطفو على السطح بكل وضوح هو تشتت وتشرذم العائلة التقدمية والديمقراطية ذات الإرث البورقيبي ( أو هذا ما تدعيه)، فبين تناحر “الإخوة الأعداء” في نداء تونس ما ال إلى إنشقاقات وانسلاخات بالجملة منذ 2015 أفرغت الحزب من أغلب مؤسسيه ومناضليه “الأوائل” و “الحقيقيين”، وحولته إلى مجموعة مشتتة من ” النداءات”، وهي في الحقيقة “نداءات” من أجل تموقع السلطة والنفوذ وليس من أجل الوطن، لتنتهي المسرحية الدرامية مؤخرا بين إجتماعين موازيين بكل من المنستير والحمامات، وما تفرع عنهما من قرارات وهياكل ومؤسسات موازية أيضا بين شقي حافظ قائد السبسي وسفيان طوبال، وبين ضارب “الدف” لذاك، وضارب “الطبل” لهذا، ضاع نداء تونس الذي أحدث خصيصا لخلق التوازن في المشهد السياسي والتصدي لتغول النهضة عقب إنتخابات أكتوبر 2011، وديس الحزب الوليد بنعال “المتسلقين” و “الوصوليين” لينتهي حزبا ب “رأسين” في انتظار معرفة أي من “الرأسين” ستفوز قانونيا ب “الباتيندا”.
تفكك الأحزاب التقدمية… والنهضة المستفيد الأول
التشتت الذي يشهده الحزب السياسي الأول وفق انتخابات 2014 ينطبق كذلك على أغلب الأحزاب التقدمية الأخرى تقريبا، وإن بدرجات أقل، وبغض النظر عن تباين الأسباب والمسببات والأرضية المؤسساتية والهيكلية والمرجعية التي يستند عليها كل حزب في مساره وسعيه الطبيعيين نحو هدف السلطة.
ففي العائلة اليسارية ذات الإرث الشيوعي الماركسي، وعلى رأسها الجبهة الشعبية ظلت “دار لقمان” على حالها على مستويات عدة، سياسيا وهيكليا وخطابيا ومؤساستيا وزعماتيا، مقابل دعوات لا تمل ولا تكل إلى “الثورة” و الخروج إلى الشارع ل “لإسقاط النظام”، هذا ” النظام” الذي يحمله الجبهويون المسؤولية الكاملة حتى في حال هبوب عاصفة رملية في البلاد، وتبعا لذلك يدعون إلى إسقاطه ل “فشله” الذريع في إدارة شؤون الحكم.
مقابل ذلك، يبرز تشتت الجبهويين للعيان من خلال خيارات ورهانات وطموحات وزعامات متباينة إلى حد التنافر التام، لاسيما بين “البوكت” و”الوطد”، ولعل بوادر الإنقسام الجبهوي الذي تم تسجيله منذ فترة بخصوص ترشيح حمة الهمامي أو ترشيح منجي الرحوي للإنتخابات الرئاسية المقبلة لأكبر دليل على ذلك بالرغم من أن الخلافات داخل الإئتلاف الجبهوي تدار بحكمة وتكتم ولا تخرج للعلن في غالب الأحيان، وهي ميزة تحسب للجبهويين على كل حال.
أما الحزب الدستوري الحر ” القادم على مهل” بإرثيه “البورقيبي” طورا، و “التجمعي” أطوارا، وفق تصنيفات مؤسسات سبر الاراء مؤخرا، فيشتكي بعض مؤسسيه وعدد من قيادات الصفين الثاني والثالث داخله، وإن بصمت، من “تفرد بالرأي” و “زعاماتية ما فتئت تتمدد” من رئيسته عبير موسي، مقابل تصريحات واثقة لهذه الأخيرة بأن الحزب يطمح للحصول على المرتبة الأولى في البرلمان حتى يتمكن من تكوين حكومة خالية من “الإسلاميين”، يبقى الطموح مشروعا، ولكن للواقع أحكامه.
في المقابل، تظل حركة النهضة، وبدرجة أقل حركة تحيا تونس تعملان بإنتظام ودون ضجيج على المستويين المركزي والجهوي، وتراقبان ب”خبث سياسي” لافت تفتت وتشتت الأحزاب التقدمية الأخرى التي تتطاحن فيما بينها بسبب أو دونه، مع إنحدار كبير في مستوى خطابها السياسي واهتراء برامجها ورؤاها الإصلاحية للأوضاع المتردية التي تعيشها البلاد.
وفيما تبشرنا حركة النهضة على لسان رئيسها راشد الغنوشي بأن نتائج إنتخابات 2019 لن تختلف عن نظيرتها في 2011، وبأن الشعب “السعيد” سيلدغ من “الجحر مرتين”، وسيعيد إنتخابها (هي ومشتقاتها طبعا، على غرار التيار الديمقراطي) مجددا ليضعها في المرتبة الأولى برلمانيا، وذلك بالرغم من سوداوية السنوات سيئة الذكر التي عاشها خلال حكمها “الرشيد” إثر انتخابات 2011، تؤكد حركة تحيا تونس الفتية والمنشقة عن النداء ل “مريديها” بأنها ستكون بديلا سياسيا منقذا ومغايرا للحزب الأم، إلى جانب ذلك هي تطمح للحصول على 109 مقعدا في البرلمان في الإنتخابات التشريعية المقبلة.
في مسار اللهث نحو القصبة وقرطاج: سقوط كبير للخطاب السياسي
في المحصلة، ومع قرب موعد الإنتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، يتواصل الصراع على أشده بين الأحزاب السياسية لكسب رهاني “القصبة” و “قرطاج” في ظل تفكك داخلي وسقوط كبير للخطاب السياسي لعدد كبير من هذه الأحزاب، مقابل “رصانة سياسية” ممنهجة ولافتة لحركة النهضة، المستفيد الأول والأخير من هذا التشرذم، والأقرب الواقعي جدا، وإن أبينا، لكسب الإنتخابات التشريعية المقبلة على أنقاض “الغباء السياسي” للاخرين.
هدايا سياسية مجانية بالجملة يقذفها “أغبياء العائلة التقدمية” على قارعة طريق الفعل السياسي في البلاد فتتلقفها حركة النهضة دون عناء يذكر لتتصدر بذلك نوايا التصويت في الإنتخابات المقبلة.
أخلقة الخطاب السياسي أولوية قصوى
الإنتخابات المقبلة محطة مفصلية وحاسمة في تاريخ البلاد، وقطعا البلاد ليست بخير وتعاني من وهن كبير نرجو ألا يصبح مزمنا، والمطلوب من أحزاب العائلة الوسطية والتقدمية التوحد وتجاوز خلافاتهم من أجل الحفاظ على مكاسب دولة الإستقلال وقيم الجمهورية، والمضي قدما في عملية الإصلاح وتحقيق ولو الحد الأدنى من انتظارات الناخبين.
“أخلقة” الخطاب السياسي للأحزاب يبقى رهانا ذا أولوية قصوى أيضا لتمر الإنتخابات التشريعية والرئاسية في مناخ إيجابي وغير متعفن.
“أخلقة” الخطاب السياسي للأحزاب تكون بوضع ميثاق عمل سياسي جدي و راق وبعيد عن السقوط الأخلاقي، وينأى عن “الوقاحة” و “السفسطة” و”البؤس” القيمي والفكري والمعرفي، وهي دعوة نراها صائبة من رئيس الحكومة يوسف الشاهد حتى ترتقي الأحزاب بنفسها أولا، وحتى تحترم قواعدها وناخبيها ثانيا لأنه لا يمكن أن ترتقي الأوطان وقادتها ونخبها فاسدون ودون أخلاق.
شعب غير سعيد في بلده قادته سعداء
تنويه، ودائما على وقع الإستعدادات للإنتخابات المقبلة، صنف مؤشر السعادة العالمي تونس في المرتبة 124 عالميا، و 13 عربيا، ولعل هذا التصنيف العالمي لبلادنا “غير السعيدة” هو نتاج مسار كامل من التدمير الممنهج للبلاد على كافة المستويات خلال السنوات الأخيرة، وهو تدمير قادته وشاركت فيه مختلف النخب السياسية بكل تصنيفاتها تقريبا سواء كان ذلك عن وعي، أو دونه.
في النهاية، وحتى لا نفقد مؤشر التفاؤل الوطني، تبقى فرص إنقاذ البلاد متاحة يا “أصحاب السعادة”.
البلاد إذن على مرمى حجر من الإنتخابات التشريعية والرئاسية التي قد ينتظر منها الساسة وأصحاب المعالي والمناصب الكثير من ” الشهد والبلح”، مقابل عزوف وإحباط المواطن البسيط الذي قد لا يعترف بجدوى إجراء الإنتخابات أصلا، فهي وفق اعتقاده، وكما في أغلب البلدان العربية، لن تغير من واقعه شيئا… ومع ذلك لنبقى متفائلين.
شارك رأيك