من أكثر الإشكاليات التي يواجهها قطاع المخابز في تونس هي عدم وجود مقاييس واضحة في إسناد الكميات المخصصة من الفارينة المدعمة لكل مخبزة فأغلبية المخابز إحتفظت بمنابها الشهري من هذه المادة حسب المسح الشامل للمخابز الذي تم إجراؤه على كامل ولايات الجمهورية سنة 2008.
بقلم فيروز الشاذلي
مع العلم أن المنابات هذه حددت إستنادا إلى تصريحات أصحاب المخابز الذين أدلوا بها من خلال تعمير إستمارات المسح ذلك الوقت، ولكن هذه الكميات الموزعة كانت جزافية وفي عديد الأحيان تم تضخيمها من أصحاب المخابز الذين يفرطون في الكميات الزائدة عن الطاقة الحقيقية لمخابزهم القادرة على تحويلها إلى أصحاب محلات المرطبات والمطاعم ومصانع الكايك، وذلك بحكم الإنخفاض الكبير لسعر الفارينة المدعمة مقارنة بسعر الفارينة التجارية الرفيعة، حيث يتم بيعها بأضعاف ثمنها، مما يمكن أصحاب المخابز المخالفين لتراتيب الدعم من كسب ثروات طائلة دون أي مصاريف تصنيع أو تحويل يدفعهم في ذلك الإنتهازية على حساب أموال المجموعة الوطنية التي تدفع المليارات لصندوق الدعم.
بالرغم من أن عمليات المراقبة التي شملت عديد المخابز تمكنت من دراسة طاقتها التحويلية القصوى والتي تم على إثرها التخفيض في الكمية المخصصة لها ومكنت من إسترجاع كميات هامة من مادة الفارينة المدعمة التي تم التفريط فيها حيث تم إسترجاع قرابة 44 مليون دينار على مدى السنوات الفارطة من خلال هذه العمليات التي قامت بها أساسا فرق المراقبة الإقتصادية التابعة لوزارة التجارة ولكن للأسف لم تشمل هذه المراقبة كافة المخابز وبصفة جذرية.
من جهة أخرى تبرز مشكلة كبرى ألا وهي عدم العدالة في توزيع كميات الفارينة المدعمة بين المخابز فنجد أن مخابز في نفس الجهة وأحيانا في نفس الحي ولكن تسند لمخبزة كمية شهرية أكثر من الأخرى بكثير دون الإستناد إلى أي مقياس موضوعي يراعي التوازن في هذا القطاع الحساس، مما أثار عديد الإحتجاجات خاصة من قبل أصحاب المخابز الجديدة، حيث تذمروا من المعاملات غير العادلة في إسناد الحصة الشهرية المخولة لهم بالرغم أنهم يقومون بتشغيل يد عاملة مصرح بها لدى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي أكثر من المخابز الأخرى التي تحضى بكميات كبيرة، إضافة إلى أن لديهم آلات وأفران جديدة ذات طاقة كبيرة ولكن رغم ذلك يجدون أنفسهم يتحصلون على حصة شهرية أقل، مما جعلهم في بعض الأحيان غير قادرين على تسديد المبالغ الشهرية للفوائد والقروض التي تحصلوا عليها لتمويل مشروعهم إضافة لمصاريف اليد العاملة والكهرباء التي تضاعفت منذ السنة الفارطة إضافة للمصاريف اليومية الأخرى .
لوبيات تحكم القطاع
بإعتبار القطاع ربحه المادي معتبر ومضمون من حيث الهامش ويدر أموال طائلة على المدى البعيد، عمد العديد إلى تملك الكثير من تراخيص فتح المخابز حتى أن هناك من تجاوز 100 مخبزة، وللوصول لهذا الغرض تم الإستحواذ على المخابز بعدة طرق، منها عن طريق عقود بيع مسجلة فقط مع صاحب الرخصة دون علم سلطات الإشراف، وتبقى ظاهريا الرخصة وجميع الوثائق الأخرى اللازمة للإستغلال باسم المالك القديم، ولكن التصرف الحقيقي والأموال بيد المالك الجديد.
كما عمد آخرون إلى الإستيلاء على مخابز أخرى بتغيير صبغة المخبزة من تابعة لشخص طبيعي إلى ذات معنوية كشركة ذات مسؤولية محدودة بحكم أن رخصة المخبزة هي رخصة شخصية تسند مرة واحدة، وللتهرب من هذا الأمر يقع إحالة ملكية المخبزة إلى ذات معنوية، وهكذا تمكن قلة من أصحاب المخابز من الإستيلاء على عدد كبير من الرخص التي تمنحها اللجان الجهوية للمخابز، مما نتج عنه ظهور لوبيات تتحكم بالقطاع مستغلة عدم تحيين القانون الخاص بالمخابز، فوجدت الدولة نفسها ضحية أخطائها، ففي عديد الأحيان تم الإلتجاء إلى إضرابات غير مبررة من أصحاب المخابز بدفع من هذه الفئة الضئيلة التي تملك سلطة القرار بالغرفة الوطنية لأصحاب المخابز التابعة للإتحاد التونسي للصناعة والتجارة، بل وصل الحد أن بعض الأشخاص يسيطرون على أكثر من عُشر المخابز إما على نطاق جهوي أو على نطاق وطني، مما تسبب في وجود لوبيات ضغط على قرارات اللجان المعنية بتنظيم قطاع المخابز لإستصدار قرارات تراعي مصلحتها الخاصة وليست المصلحة الوطنية أو مصلحة المواطن البسيط.
المخابز العشوائية
عدة ظروف ساهمت في إنتشار المخابز العشوائية على كامل تراب الجمهورية ومن أهمها تسرب كميات كبيرة من الفارينة المدعمة من المخابز الرسمية والمتحصلة على رخص وأغلبها تحت ملكية اللوبيات التي تم الإشارة لها سابقا حيث يتم خلط الفارينة المدعمة بمادة السميد الغذائي وبيعها على أساس خبز مدعم و بالرغم من المجهودات الكبيرة لفرق المراقبة للتصدي لهذه الظاهرة إلا أنها تمادت بسبب الكميات الإضافية التي تتحصل عليها المخابز الرسمية وكذلك بسبب عدم التوزيع المتوازن للمخابز بين المناطق حسب الإستهلاك والمقاييس الديمغرافية مما يجعل المخابز العشوائية تجد الأرضية المناسبة من حيث وجود مستهليكن يقبلون على منتوجاتهم بما يكفل لهم ديمومة نشاطهم.
إضافة لذلك نجد داعما كبيرا لإنتشار هذا النوع من المخابز العشوائية وهي الأنماط الإستهلاكية للمجتمع التونسي ففي بعض المناطق هناك ميل واضح من المستهليكن إلى أنماط خبز تقليدية لا توفرها المخابز العادية مما يعطي أفضلية للمخابز العشوائية كبيع الملاوي، وخبز الطابونة، وخبز الشعير …).
قانون من عهد البايات
من أهم أسباب تزايد الإشكاليات في هذا القطاع هي عدم مراجعة القانون المنظم للقطاع وهو الأمر العلي المؤرخ في 19 جانفي 1956 والمتعلق بتجارة المخابز وصنع الخبز وبيعه منذ أن كانت تونس مملكة تحت حكم محمد الأمين باي، وكذلك قرار الوزير الأكبر في تلك الحقبة قبل الإستقلال الطاهر بن عمار المؤرخ في 20 جانفي 1956 المتعلق بتنظيم المخابز.
وهذه التشريعات لم تعد بأي حال من الأحوال تعطي حلولا لإشكاليات القطاع المتعددة، لهذا يجب العمل على سن قانون جديد لتنظيم القطاع تكون طريقة إسناد تراخيص فتح المخابز واضحة لا لبس فيها وموضوعية تستند إلى معطيات ديمغرافية ودراسات واضحة حول كمية الإستهلاك وليست بطريقة جزافية كما درج على ذلك وتحت ضغط اللوبيات.
كما يجب التنصيص كذلك على مقاييس توزيع الحصص الشهرية للفارينة المدعمة بين المخابز الناشطة لكي لا تكون محل إجتهاد أعضاء اللجان الجهوية التي كثيرا ما تكون تحت ضغط مطلبي كبير من لوبيات القطاع.
ومن أهم المقاييس التي يجب العمل على سنها هي الطاقة التحويلية للمخبزة وعدد العمال المصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي للتبين من القدرة الإنتاجية الحقيقية للطاقة التحويلية المصرح بها وهي عوامل كلها تساعد في تنظيم القطاع مع ضرورة تشديد العقوبات على أصحاب المخابز العشوائية الناشطة في صنع الخبز المدعم وكذلك الأطراف التي تزودهم بالفارينة المدعمة على حساب صندوق الدعم الذي يخسر المليارات من تحويل وجهة الدعم نحو غير مستحقيه.
شارك رأيك