الدولة مدعوّة لتحمّل مسؤولياتها الكاملة في تحييد المؤسسة الأمنية عن الإعتبارات الحزبية حتى يكون ولاؤها وطنيا بالكامل. فمواقف الأحزاب التي ترى نفسها والسلطة شيء واحد – مثلما أبرزته إحتفالات قوات الأمن- لا يساعد على التفكير في إجراء إصلاحات لبناء أمن جمهوري.
بقلم محسن بن عيسى *
لم استوعب بعدُ ردود الفعل على الصُّور الغريبة التي تمّ تداولها على هامش الإحتفالات الأخيرة لقوات الأمن الداخلي والتي كانت في نشاز تامّ مع “الصبغة الأمنية”. لقد بدى لي هذا التقارب “الحزبي-الأمني” والتقاء “الزي الرسمي” بــ “اللباس التقليدي”، من النوع الذي لا يخلو من دلالة ويحمل مفارقة لافتة.
إنتهاك التقاليد الراسخة
تنبع عن القوات الأمنية عادات وتقاليد تتناقل وتتطوّر من جيل إلى جيل، وتتميّز باحترامها للمُثل والقيم العليا والتزامها بالضوابط النظامية. وتُعتبر القوانين والأنظمة الخاصة والأوامر من أهم القواعد المنظّمة لها.
لا تقف التقاليد عند الرمزية أو التعبير عن الإنتماء لهيكل مُعيّن، بل تتعدّى ذلك لتأخذ شكلا من القداسة عند التعامل مع الراية واسترجاع ذاكرة الشهداء والإحتفال بالأعياد الرسمية وصولا إلى إحتفالات التخرج والترقية والتوسيم والتقاعد، ومن أبرز وظائفها تأكيد الهوية الوطنية.
من أجل ذلك كانت ولا تزال مرحلة الإعداد الأساسية والتي تقوم على غرس التقاليد من أهم مراحل التدريب والتكوين في المدارس والأكاديميات.
وبناء عل ذلك يصبح هذا الإرث جزءا من الحياة اليومية للرجل النظامي وإطارا منظما تحدّد فيه معالم العلاقة بينه وبين رؤسائه وبينه وبين زملائه مع إحترامه للتعليمات الدائمة والخاصة بارتداء الزي النظامي وحمل شارات الرتب والأوسمة بما يتماشى مع المهام والوظيفة والرتبة.
لا تتوقف قيمة أيّ وحدة عسكرية أو أمنية على مدى تحلّي أفرادها بالإنضباط في أداء واجبهم بل تشمل أيضا مدى تشبّث رجالها بالتقاليد العسكرية والخصال الحميدة. ويندرج تعليق شارات الرّتب والتوسيم في هذا السياق حيث يستوجب أن يكون ذلك في نطاق الأعراف المتفق عليها، وبالطريقة اللائقة التي تنظّمها القواعد النظامية. ذلك أن أيّ إخلال بالضوابط في هذا الجانب هو بلا شك إخلال في الأعراف النظامية.
يبدو أنّ هناك إرباكا معيّنا في عدّة مستويات ومؤسسات رسمية، إرباكا خلق نوعا من الفراغ التنظيمي الذي أُستغلّ عن قصد أو جهل ليسئ لبُعد الإحتفال وقيمة الترقية. لقد بات واضحا أن مفهوم التقاليد الأمنية لم يعد واضحا في أذهان بعض صانعي القرارات ومنفّذيها، وهو مؤشر بالغ الدلالة على تراجع القيم الناظمة للأجهزة الأمنية.
أفهم أنّ الوظائف داخل الأسلاك الأمنية أصبحت مركّبة وتحتاج إلى تخصّص في أكثر من مجال، لذلك نجد مسمّيات جديدة لم تطرأ علينا من قبل. ولعلّ من نافلة القول الإشارة إلى أنّ الجديد لا يلغي القديم والحديث لا يلغي التقليدي ومن ذلك الحاجة لإحياء خطة “ضابط التقاليد” المتعارف عليه قديما وحديثا.
حياد المؤسسة الأمنية
تعدّ المؤسسة الأمنية من أكثر المرافق العامة في النظام السياسي تعقيدا وتشابكا من حيث دورها ومرجعيّتها. فهي دعامة أساسية للدولة، وأهم عوامل إستقرارها وتقدمها. وهي مؤسسة مواكبة للتحولات في النظم السياسية وأشكال الحكم، فضلا عن كونها محاطة بسياج قانوني يحمي تواجدها وتواجد العاملين بها.
لا شك أنّ أمن تونس الحقيقي يقوم على القيم الأساسية للمجتمع ومصالحه الجوهرية وليس على قيم ومصالح الأحزاب، وأنّ أكبر خطأ يهدّد الدول هو الخلط بين مصالح الأحزاب وقيم المجتمع. إنّ أبرز حالات الإنحراف بمؤسسة الأمن، دفعها للإبتعاد عن تقاليدها العريقة في أداء واجبها خلف ستار المؤسسة المدنية ودون التطلع إلى أيّ دور سياسي.
لذلك فان الدولة مدعوّة لتحمّل مسؤولياتها الكاملة في تحييدها عن الإعتبارات الحزبية حتى يكون ولاؤها وطنيا بالكامل. فمواقف الأحزاب التي ترى نفسها والسلطة شيء واحد – مثلما أبرزته إحتفالات قوات الأمن- لا يساعد على التفكير في إجراء إصلاحات لبناء أمن جمهوري.
الشيء المثير أنّ هناك عوامل جديدة تهدّد الأجهزة الأمنية، وأهمّها تناقض الولاء والصلاحيات وتناقض في المصداقية.
* عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك