يبدو أننا في تونس أصبحنا ننام ليلا على وقع فاجعة لنصحو صباحا على فاجعة أخرى، فبين فاجعة اسشهاد الجندي بالجيش الوطني في إنفجار لغم أول أمس بجبل الشعانبي وبين فاجعة وفاة عاملات بالقطاع الفلاحي في سيدي بوزيد أمس السبت 27 أفريل 2019 بات من الثابت، بل من المؤلم إلى حد الوجع، أن الموت فيك يا وطني صار خبزنا اليومي.
بقلم: سنيا البرينصي
أصبح الموت يحاصرنا في شتى أشكاله حتى بتنا نألفه ونتعود عليه بما أنه أصبح كنشرات الأخبار والنشرات الجوية يمر دون ضجيج ودون صخب ودون تفاعل أحيانا، فبين فاجعة وأخرى بتنا جميعا منكوبين وبتنا غرباء في وطن فقد وجهه حتى أننا لم نعد نعرفه.
في الحقيقة، فاجعة وفاة العاملات أمس ليس حدثا مستجدا لأن حوادث مماثلة سبقته خلال السنوات الأخيرة في مسار هذا النزيف المتواتر لطاقات البلاد المنتجة والكادحة، فوفقا لإحصائيات صادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية أودى هذا النزيف المتكرر بحياة أكثر من 40 عاملة، إلى جانب 492 إصابة خلال السنوات الأربع الأخيرة، وهو رقم مفزع ووجب دق ناقوس الخطر حوله للتصدي ل “إرهاب” الطرقات ولتنامي ظاهرة الإتجار بالبشر نتيجة غياب التشريعات الضامنة لحقوق هذه الشريحة الإجتماعية، ونتيجة عدم تفعيل هذه التشريعات وتكريسها واقعيا بقوة القانون وضمن تكريس حقيقي لمنظومة كونية حقوق الإنسان إن “وجدت” ببلادنا.
شهيدات الرغيف هن ضحايا منظومة كاملة
شهيدات الرغيف وشهيدات “الخبز الحافي” اللاتي سقطن أمس مضرجات بالدماء في مشهد موجع ومخالف لكل ظروف الإنسانية هن ضحايا ظروفهن الإجتماعية المتردية، وضحايا سائق متهور ومشغل مستكرش و”لص” في أغلب الأحوال، هذا ظاهر الصورة، لكن في باطن هذه الصورة التي يتعامى الجميع عن رؤيتها بقصد أو دونه، هن في حقيقة الأمر ضحايا منظومة سلطة إغتالت أحلامهم وحرمتهم من أبسط مقومات العيش الكريم، هن ضحايا منظومة تشريعية كاملة لم تضمن لهن حقوقهن الإنسانية والإجتماعية بالقدر الكافي.
شهيدات “الخبزة المرة” في سيدي بوزيد وفي كل الجهات الداخلية المسحوقة هن ضحايا أحزاب وشخصيات سياسية رفعت شعارات حقوق وحريات النساء، ومعظم هذه الأحزاب لا تؤمن بها ولا تتبناها أصلا في ظل مجتمع ما يزال في وعيه الباطني، ورغم تطوره الظاهر، يرزح تحت ثقل متخلف لمنظومة متوارثة من مفاهيم متاكلة ل “الأبوية” و”القوامة” الزائفتين، أحزاب تاجرت بالمرأة في حملاتها الإنتخابية بما أنه في سوق “النخاسة” السياسية تظل كل السبل مشروعة، وإن خالفت القيم وحتى القانون.
وضع المرأة في الأرياف مزري بكل المقاييس… فأين السلطة والنقابات ومنظمات حقوق الإنسان؟
شهيدات الرغيف اليوم، وما أكثر الشهداء فيك يا وطني، فكلنا مشروع شهيد بطريقة ما، هن كذلك ضحايا منظمات حقوق إنسان ونقابات ومنظمات شغلية تدعي الدفاع عن الشغالين وعن المسحوقين لخوض وكسب معاركها السياسية البحتة، لكنها تستثني أمثال هؤلاء لأنهم لا يملكون ثمن الإنخراطات ولا ثمن التنقل لحضور الإجتماعات والمؤتمرات التي تعقد في “الصالونات” السياسية والحقوقية والنقابية الفخمة، أين في الغالب تدار الدسائس والمعارك الشخصية والمشخصنة من أجل السلطة.
شهيدات سيدي بوزيد، وأمثالهن بالمئات في جندوبة وفي باجة وفي القيروان وفي تطاوين، ففي كل منطقة داخلية مسحوقة بالبلاد هناك نساء شهيدات إن ب”الحياة” أو ب”الموت”، هناك في أرياف تونس توجد نساء منسيات ومهمشات و بعيدات كليا عن وهج شمس الحداثة ونظريات وتنظيرات حقوق الإنسان وحقوق المرأة.
هناك في أعماق تونس توجد نساء مسحوقات ومضطهدات من طرف العائلة، ومن طرف المجتمع، ومن طرف منظومة السلطة التي لم تحفظ لهن أبسط حقوقهن رغم تبجح هذه السلطة القديم المتجدد بحقوق المرأة في المحافل الوطنية والإقليمية والدولية وفي وسائل الإعلام.
البكائيات الجوفاء التي لن تسمن أو تغني من جوع
شهيدات سيدي بوزيد اليوم، ولا ندري شهيدات أي ولاية منكوبة أخرى سنرثي غدا، الظروف المؤلمة لحياتكن وموتكن كانت للأسف بعلم الجميع وعلى مرأى من الجميع، سلطة وأحزاب ونقابات وحقوقيين وإعلام، لأن الجميع كان يعلم بؤس واقعكن، ولا أحد حاول بجد وبعقيدة راسخة تحسين هذا الواقع وتفادي حدوث المأساة.
ولأن هذه المأساة قد حدثت للأسف، وحتى لا يكتفي المسؤولون عنها بالإستنكار حينا وبالتبرير أحيانا، وبعيدا عن البكائيات الجوفاء التي لن تسمن أو تغني من جوع، يبقى المطلوب بشدة تحديد المسؤوليات في هذه الحادثة، كما أنه لابد من تحميل هذه المسؤوليات للسلط المركزية والجهوية والوزارات المعنية، وعلى رأسها وزارات المرأة وشؤون الأسرة وحقوق الإنسان والنقل والفلاحة، لتعريضها حياة العاملات الفلاحيات للخطر نظرا لعدم تفعيل التشريعات الكفيلة بضمان حقوق هذه الشريحة الإجتماعية.
في المحصلة، يبقى وضع الشغالين في كل القطاعات تقريبا نقطة إستفهام كبرى بالنظر إلى الحيف الإقتصادي الكبير الذي تعاني منه هذه الشريحة، وهذا الحيف هو في الحقيقة ناتج عن تراكمات سابقة وحالية لمنظومة سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية أثبتت فشلها، ولذلك وجب على السلط المعنية إيجاد حلول عملية لهذا الملف، حلول قد تمكن ربما من الحد من حجم هذا النزيف الذي يستهدف الطاقات المنتجة في البلاد.
شارك رأيك