الغريب أن يتحدث الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي عن “ثورة ابن تيميّة الفلسفيّة” بينما هذا الأخير يعتبر الأب الرّوحي للسّلفيّة التّكفيريّة ولمعاداة العلوم والفنون والحضارة. وقد أحصى بعض المهتمّين بمنزعه التّكْفيريّ ما لا يقلّ عن 428 فتوى قضت بتكفير مسلمين، حتّى أضحت عبارة: “يُسْتَتابُ أو يُقْتَل” لصيقة بالرّجل ومذهبه.
بقلَم: أسْعَد جمعة *
لا غرْو أن يقول البروفيسور أبو يعرب المرزوقي إنّ “حرَكة النّهْضة في تونس هي ذرْوة ما وصَل إليْه الفكْر الإصلاحيّ في العالم الاسلاميّ”، وقد ذهب في مقال نشره تحت عنوان “ثورة ابن تيميّة الفلسفيّة” إلى أنّ “فكْر” الأب الرّوحي للسّلفيّة التّكفيريّة لا يتّسم بالطّرافة فحسب، بل بالثّوريّة أيْضًا، حيث قال: “كلّما حاولتُ فهْم المُتحاملين على ابن تيميّة وخاصّة المغْرقين منهم في إتّهامه وجدتُ لسُوء فهْمهم عذرًا في طرافة فكر الرّجل وثوريّته” (أنظر المقال الذي نشره المذكور تحت هذا العنوان في 17-10-2014).
تحريم عِلْم الكيمياء، ووصف جابر بن حيّان بالجاهل
فلْنقلّب الأمْر وننظر فيما استوْدعه ابن تيميّة وأشهر تلامذته ابن قيّم الجوزيّة من أفكار “ثوْريّة” في مؤلّفاتهما.
فأوّل فعْل ثوْريّ يُحْسَب لهذا العالم الجهبذ، تفيّ الدّين ابن تيميّة، إنّما هو تحريمه لعِلْم الكيمياء، ووصفه لجابر بن حيّان بالجاهل.
وها هو ابن تيميّة مفْصِحًا عن رأيه في الكيمياء: “وحقيقة الكيمياء إنّما هي تشبيه المخْلوق، وهو باطلٌ في العقل والله –تعالى- ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وكلّ ما أنْتجته الكيمياء من منتجات هي مضاهاة لخلق الله، وبالتالي هي محرَّمَة” (انظر: “مجموع الفتاوى”، المجلّد التّاسع والعشرون، البيع، باب الخيار، مسألة: “عمل الكيمياء هل تصح بالعقل أو تجوز بالشرع”. الطبعة الأولى- ص 369). وصفْوة حديث إمام التيّارات التّكفيريّة الحديثة أنّ علم الكيمياء يؤدّي إلى الكفْر، فضرورة إقامة حدّ الكافر على مَن يتعاطاه أمْرٌ واجب شرعًا واسْتباحة دمه مأمور بها شَرْعًا.
وفيما يخصّ عالم الكيمياء الفذّ جابر بن حيان، فإنّ عبارة ابن تيميّة في وصْفه للرّجل لا توحي إلاّ بالإحتقار والإزدراء: “وأمّا جابر بن حيان صاحبُ المصنّفات المشْهورة عند الكيماويّة، فمجْهولٌ، لا يُعرَف، وليسَ له ذكرٌ بين أهل العلم، ولا بيْن أهل الدّين” (انظر: المرجع المذكور، صفحة 369).
تجريح وتقْزيم الخوارزمي مؤسّس علْم الجبر الحديث
والأمر لا يعدو مغايرًا عند ذكْره لمؤسّس علْم الجبر الحديث: الخوارزمي، تجريح وتقْزيم لهذا الهَرَم العلْميّ، بل أنّ تحامله على الرّجل، على الرّغْم من مقامه العلميّ المشهود له كوْنِيًّا، قاده إلى إغفال حقيقة أنّ هذا العَلَم، فضْلاً عن تضلّعه في علم التّعاليم (الرّياضيّات كما يسمّيها أبو نصر الفارابي)، فإنّه كان فقيهًا مجْتهدًا قد عَمَد، من خلال وضْعه لعلْم الجَبْر، إلى تيسير علم المواريث في فقه المعاملات الإسلاميّ، وضبط مقاييس إحتساب المنابات ضبْطًا علميًّا دقيقًا. فافتَرى على هذا الصّرح العلميّ كذبًا وبهتانًا مدّعيًا أنّ “الجبْر والمقابلة، وإن كان صحيحَا هذا العلم، إلاّ أنّ العُلوم الشّرعية مستغْنية عنه، لأنّه – يعني الخوارزمي- منجّمٌ ومترْجِمٌ لكتب اليونان وغـيرهم”.
ولم يشذّ تلميذه النّجيب ابن قيّم الجوْزيّة عن الخطّ الذي رسمه له أستاذه من حيث المغالاة في التّعصّب ونبذ النّظر العقليّ، فقَد حرص على توْسيع رقْعَة العُلوم المشْمولة بالإقصاء عن الدّائرة المعْرفيّة المُثْلى، مُعْلنًا في إطار تمْييزه علوم المسْلمين عمَّن سواهم من الأُمم والشّعوب: “وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ (يعني: غير المسلمين) مِنَ الْأُمَمِ أَعْلَمَ بِالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ، وَالْكَمِّ الْمُتَّصِلِ وَالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ، وَالنَّبْضِ وَالْقَارُورَةِ وَالْبَوْلِ وَالْقَسْطَةِ، وَوَزْنِ الْأَنْهَارِ ونُقُوشِ الْحِيطَانِ، وَوَضْعِ الْآلَاتِ الْعَجِيبَةِ، وَصِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ، وَعِلْمِ الْفِلَاحَةِ، وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَتَسْيِيرِ الْكَوَاكِبِ، وَعِلْمِ الْمُوسِيقَى وَالْأَلْحَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَبَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ، وَبَيْنَ عِلْمٍ نَفْعُهُ فِي الْعَاجِلَةِ وَلَيْسَ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا عَوَامًّا فِي هَذِهِ الْعُلُومِ فَنَعَمْ إِذًا، وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا”. (انْظر: “هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنّصارى” – الجزء الأوّل- القسم الأوّل في أجوبة المسائل- “المسألة السّادسة فيما قيل إنّ روايات ابن سلام أوْلى بالأخذ من روايات عوامّ الصّحابة-علم الصّحابة وفضلهم”، ص442-ص443).
إماميْ السَّلَفيّة التَّكْفيريَّة يحرمان العاوم على أنها دخيلة على البيئة الفكريّة الإسلاميّة
ومع هذا، فإنّ تحْريم إماميْ السَّلَفيّة التَّكْفيريَّة لم تطلْ العُلوم التي عادة ما تُقَدَّم على أنّها دخيلة على البيئة الفكريّة الإسلاميّة، أي علم الكيمياء، وعلم الجبْر، والفلْسفة، وعلْم المنْطق، فحسْب؛ بل أنّ منْزع ابن تيميّة التّكْفيريّ قد طال أيضًا العلوم الإسلاميّة، أمثال: علم الكلام المعتزلي، غُلاة الشّيعة، التّصوّف الفلسفي. قلم يتوان عن قذف أجلّة علماء الإسلام بتُهم الكُفْر والإلْحاد والزَّنْدقـة والسِّحْر والكَذِب؛ وغير خفيّ ما يسْتَتْبع من إستباحة لإراقة دماء مَن أٌقيمَت عليه الحدود المُسْتحقَّة ممَّن أتى هذه الشّناعات.
وقد شملت هذه التّهم خير مفكّري الإسلام وحكمائهم، أمثال: الكندي، ابن سينا، الفارابي، اليعقوبي، الرّازي، الجاحظ، ابن الهيثم، الإدريسي، جابر بن حيّان، نُصير الدِّين الطوسيَّ، صدْر الدّين القونويَّ، ابن عربي الروميَّ، ابنَ الفارض، ابنَ سبعين، السَّهرورديَّ، الحلاّج.
والشّيء من مأتى الرّجل غيْر مستغْرَب، فقد أحصى بعض المهتمّين بمنزع ابن تيميّة التّكْفيريّ ما لا يقلّ عن 428 فتوى قضت بتكفير مسلمين، حتّى أضحت عبارة: “يُسْتَتابُ أو يُقْتَل” لصيقة بالرّجل ومذهبه. فأنّى لنا أن نعْجب لمَنْزع مريديه -الذين ابتُلينا بهم في زماننا هذا- الدّموي ؟!
إقصاءٌ للعُلوم العقْليَّة إذًا، وتقوْقعٌ حوْل الذّات، وغطْرسَة، وانْسدادٌ لكلّ أٌفٌق معْرفيّ… هكذا تُبنى الحضارات كما يدّعيه أئمّة السّلفيّة: بتحريم كلّ العُلوم التي تصْنع تقدّم الأمم ورقيّها، بل أنّ كلّ التّعابير الثّقافيّة بشتّى أنواعها محرَّمَة عند هؤلاء الظّلاميّين.
إمام السّلفيّة التّكفيريّة الجهاديّة الإخوانيّة يحرم فَنَّيْ الغِناء والموسيقى
لن نذْكُر هاهنا فنّيْ الرّسْم أو النّحت اللّذيْن كان قد أثارَا جدلاً واسعًا بين الفقهاء، إذ منهم مَن أجازه، ومنهم مَن منَعه. كلاّ إنّنا نشير هاهنا إلى فنّ كان يمارَس بين أيدي الرّسول الأكرم (والأحاديث النّبويّة في هذا الباب أكثر من أن تٌحْصى عددًا) والصّحابة والتّابعين لهم بإحسان، أعني فنّ الموسيقى.
فها هو إمام السّلفيّة التّكفيريّة الجهاديّة الإخوانيّة التي يدين لها تنظيم الإخوان-إمارة تونس بمبادئه النّظريّة يفصّل مآخذه على فَنَّيْ الغِناء والموسيقى منْتَهيًا إلى تحْريمهما وإقامة الحدّ على مُزاوليهما : “والمعازف هي خمْر النّفوس، تفْعل بالنّفوس أعْظم ممّا تفعل حميا الكؤوس، فإذا سَكروا بالأصْوات حلَّ فيهم الشِّرْك، ومالوا إلى الفواحش، وإلى الظّلم، فيشركون، ويقْتلون النّفْس التي حرَّم الله، ويزْنون؛ وهذه الثّلاثة موْجودة كثيرًا في أهْل سماع المَعازف” (انظر: “مجموع الفتاوى”، الجزء العاشر، ص 417).
فإلى أيّة غياهب جاهليّة تسوقونَنا يا “مَن يَخْشَوْن الله” و”يناصِرُون نبيَّه الأكْرم”؟ أَ إلى عُصور ما قبْل التّاريخ والحَضارة أنت بنا عائدون؟
لقد أصْدع بها علاّمتنا عبد الرَّحْمان بن خلْدون مُدوِيَّة: “إنّ العرَب لا يحْصل لهم المُلْك إلاّ بصبْغة دينيّة من نُبوَّة أو ولاية أو أثرٌ عظيم من الدّين على الجملة” (“المقدّمة”، ص 151)، فـ” إذا تغلَّبوا على أوْطان أسْرع إليها الخَراب” (نفس المرجع، ص 149)… والتّاريخ الخلدونيّ قلَّما يٌخْطئ.
- جامعي باحث.
شارك رأيك