حان وقت التقييم، فبعد أكثر من ثماني سنوات ظهرت عديد الحقائق وسقطت الكثير من الأقنعة، وفشل من فشل وسقط من سقط، لكن البعض مازالوا يوهمون أنفسهم والناس بثورجية زائفة، وشعبوية حولتهم إلى مصادر تندر وٱستهزاء وسخط أيضا.
بقلم مصطفى عطية *
هؤلاء الذين ابتلي بهم الشعب التونسي وهو في سكرة ثورية جدا ركبوا سروج الحراك الشعبي في الساعة الخامسة والعشرين كما يقال، وٱرتقوا إلى المناصب العليا في غفلة من الجميع، متدثرين بالفوضى التي عمت البلاد، وجهل الناس بالإنتخابات الديمقراطية لكن بعد أقل من ثلاث سنوات إستعاد الشعب بعض وعيه وعصف برهط منهم، ومع ذلك مازال بعضهم لم يستفيقوا من هول صدمة السقوط، ويعتقدون أنهم يحملون عصا سحرية لتغيير الأوضاع !
إخترنا ثلاثة من هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر.
المنصف المرزوقي : “ستندمون على رحيلي”
عندما حل محمد المنصف المرزوقي قادما من “منفاه الذهبي” كان الحراك الشعبي قد بلغ منتهاه وعمت الفوضى كافة مناطق البلاد، ومن حسن حظه أن تسرع الماسكون الوقتيون بزمام السلطة وٱستجابوا لضغوطات إعتصامات ساحة القصبة ونظموا إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي كانت نتائجها كارثية بعد إقصاء الكفاءات السياسية ذات التجربة في إدارة مؤسسات الحكم من المشاركة فيها.
وهكذا وجد المرزوقي نفسه عضوا في المجلس بعد حصوله على بضعة آلاف من فواضل الأصوات!
وعندما إنطلقت مفاوضات تكوين السلطة الإنتقالية بين أكثر الأحزاب تمثيلا في ذاك المجلس، رفض أحمد نجيب الشابي التحالف مع حركة النهضة وحزب التكتل فٱلتجأ الأخيران إلى حزب المؤتمر ورئيسه منصف المرزوقي ووزعت الأدوار بينها، رئاسة الحكومة للنهضة حيث تبوأ حمادي الجبالي المنصب، ورئاسة المجلس التأسيسي للتكتل وقائده مصطفى بن جعفر، ورئاسة الجمهورية لمنصف المرزوقي زعيم حزب المؤتمر.
وبٱختصار دخل المرزوقي قصر قرطاج وسرعان ما حوله إلى مرتع للمتشددين والمحرضين على التطرف، يستقبلهم فيه وينظم لهم المآدب ويكرمهم !
ثم تتالت القرارات والإجراءات والمواقف المضرة بالبلاد : توتر مع الجزائر وروسيا والإمارات ومصر، وخرق فاضح للقوانين الدولية بتسليم البغدادي المحمودي للمليشيات الليبية في صفقة لم تتضح معالمها بعد، وقطع العلاقات مع سوريا تحت ضغوطات إقليمية ودولية، وتصاعدت الروائح من قصر قرطاج لتزكم الأنوف وتثير سخط المواطنين الملتاعين والمحبطين، وتعددت زيارات غلاة الرجعيين والظلاميين والإرهابيين ودعاة ختان الإناث وتحجيب الرضيعات إلى بلادنا لبث سمومهم في شبابنا، ونشطت خلايا تسفير المغرر بهم إلى “مناطق الجهاد” وٱنهار الإقتصاد وتفشت الجريمة وتدهورت الأوضاع الإجتماعية بشكل غير مسبوق…
ومع ذلك أصر المنصف المرزوقي على خرق الإتفاق الذي حدد مدة الرئاسة الوقتية بسنة واحدة وبقي ثلاث سنوات كاملة، كانت حصيلتها سلسلة من الكوارث ما زلنا نعاني منها إلى اليوم.
حمادي الجبالي “الخليفة السادس”: أين الحكومة ؟
عندما صدر العفو التشريعي العام إستقبل محمد الغنوشي، وهوآخر وزير أول في النظام السابق ورئيس أول حكومة وقتية بعد الرابع عشر من جانفي 2011، وقد سيطر عليه الإرتباك، القيادي في حركة النهضة حمادي الجبالي وسأله عن مطالب حركته، فٱكتفى هذا الأخير بالقول : نريد “ترخيصا رسميا”!
كانت تلك هي البداية لكن الوقائع والأحداث أخذت نسقا متسارعا وأفضت إلى صعود حمادي الجبالي إلى رئاسة حكومة الترويكا الأولى بهيمنة حركة النهضة ومشاركة حزبي التكتل والمؤتمر، وبدأ حمادي الجبالي بٱنتهاك أول مبادئ الثورة ألا وهو صبغتها المدنية وذلك بتبشيره العلني بحلول “الخلافة السادسة” !!!
ومن يومها بقي الرجل وفيا لمبادئه وأهدافه فأدمج عشرات الآلاف من أتباع حركته في مؤسسات الدولة والمرافق العمومية وفسح المجال للحركات المتشددة للعمل والتحرك والإستقطاب بكل حرية وحرص جاهدا على إختراق أجهزة الدولة والتمكن من مراكز القرار فيها، فكانت النتائج درامية في كل المجالات دون إستثناء، وٱنهارت المنظومة الأمنية وتدهور الإقتصاد وشارفت خزينة الدولة على الإفلاس وٱنتشر الإرهاب، وسقط العديد من الأبرياء ضحايا ومنهم بالخصوص شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
و من المقولات المأثورة للوزير الأول المؤقت “أين الحكومة؟”… قالها يوما خلال زيارة لحي شعبي في ضواحي العاصمة يفتقد إلى أبسط المرافق الصحية…
مصطفى بن جعفر : ” أنجزنا أحسن دستور في العالم ”
لم يكن مصطفى بن جعفر، وهو سليل المدرسة الدستورية، معارضا شرسا لنظام بن علي وحكمه، بل كان مهادنا له ومدافعا عنه في بعض الحالات، وقد إستغل، بعد إندلاع حراك الرابع عشر من جانفي، وضعه كمعارض صالونات وديكور وسفارات أجنبية، ليلتحق بقوافل “الثوار”، وكما المرزوقي والجبالي، وجد نفسه رأسا من الرؤوس الثلاثة الذين نصبوهم لإدارة شؤون البلاد وقتيا، وكان نصيبه رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، الذي شهد في عهده فصولا فلكلورية بلغ صيتها مشارق الدنيا ومغاربها وغدت مدعاة إستهزاء وتهكم.
لم يستطع بن جعفر السيطرة على الفوضى تحت قبة المجلس، فصال الأميون والجهلة والإنتهازيون وجالوا كما شاؤوا، وصدرت قوانين وتشريعات عمقت أزمات البلاد وتركت الحبل على الغارب للفوضويين والمنفلتين والمتطرفين، وتكتل الذين لا يعملون ضد الذين يعلمون ووضعوا دستورا على مقاس المحاصصات الحزبية وتحت تأثيرات أجنبية بعضها غير بريء، وينسب لمصطفى بن جعفر تباهيه بهذا “الإنجاز” ووصفه بأنه “أحسن دستور في العالم” !!
إنصرف مصطفى بن جعفر، اليوم، إلى النقد والإنتقاد لكن هذا “الوعي المتأخر” لن يجديه نفعا فقد سبق السيف العذل!!
* صحفي و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك