إن التحرير الكامل للإقتصاد التونسي أمام السوق الأوروبية الذي ستحمله إتفاقية “الأليكا” دون تأهيل للإقتصاد التونسي سينجر عنه تدمير باقي مقومات هذا الإقتصاد وخاصة منظومات الإنتاج التي هي بطبيعتها تضررت من إتفاق 1995، كما أن أكثر قطاع مهدد هو القطاع الفلاحي.
بقلم فوزي عبيدي
كل شخص ينتقد إتفاقية “الأليكا” Aleca)) الخاصة بالتبادل الحر والمعمق مع الإتحاد الأوروبي يتم إتهامه من الأطراف المشرفة على التفاوض بعدم وجود دلائل إقتصادية موضوعية وبأن تفكيره لا يعدو أن يكون شعبويا، لكن دراسة أوروبية قامت بها مؤخرا النمسا تحت عنوان “سعي الإتحاد الأوروبي لدفع تحرير الخدمات يزيد من التوترات في تونس”، بينت أن “الأليكا” يمكن أن تحدث خسائر للإقتصاد التونسي تقدر بــــ 1،5% من الناتج الداخلي الخام في حالة التحرير الكامل للإقتصاد التونسي تجاه السوق الأوروبية أي خسارة قرابة 1000 مليون من الدينارات.
أضافت الدراسة أن فتح الأبواب أمام المزودين من الإتحاد الأوروبي يمكن أن يخفّض من كلفة المنتوجات والخدمات خاصة في الصفقات العمومية ولكن هذا سوف يمنع الدولة من القيام بدورها الهام في دعم الإقتصاد الوطني المكون أساسا من شركات صغرى ومتوسطة الحجم. وهذا ما بيّنه كل من الباحثين الإقتصاديين Werner Raza ،Jan Grumiller وBernard Troster وهم يعملون بالمؤسسة النمساوية للبحث في التنمية.
المفاوضات مع الإتحاد الأوروبي إلى حد الآن هي مجرّد “خداع”
هذا وخلصت الدراسة إلى أن تطبيق تونس للتشاريع والقوانين الأوروبية سوف يمكن المصدرين التونسيين من تنقيص تكلفة تصدير المنتوجات التونسية ولكن هذا سوف يفتح باب المنافسة غير العادلة للإقتصاد الهش مما يمثل عبئا ثقيل للحكومة وخاصة القطاع الخاص.
بالإضافة إلى ذلك، أهم نقطة خلص إليها التقرير (وشهد شاهد من أهلها) أن الإتحاد الأوروبي يريد تحريرا كاملا لكل القطاعات في تونس بدون أن يعطي أقل حق أو حرية التنقل للمواطنين التونسيين، لتختتم الدراسة أن المفاوضات إلى حد الآن هي مجرّد “خداع”.
هذه الشهادات من الجانب الآخر لم تقتصر فقط على هذه الدراسة بل هناك كذلك دراسة سويدية في نفس السياق أشار إليها المعهد العربي لرؤساء المؤسّسات تنذر بأن الإتفاق مع الإتحاد الأوروبي سوف يكون سلبيا على الإقتصاد التونسي ونسبة النمو الإقتصادي ستنخفض، كما أشار مقال نشر مؤخرا في الجريدة الفرنسية “Le Monde” أن هذا الإتفاق سيمكن المخابر الأوروبية من فترة إضافية تصل إلى عشرين سنة من ملكية براءة إختراع الأدوية وهذا سوف يلهب أسعار الأدوية في تونس.
ذاهبون للإتفاقية بكل صمت و… غباء
في مناخ إقتصادي وإجتماعي متوتر تعكسه تدهور المؤشرات الإقتصادية والمالية من جهة وتأثر الإقتصاد التونسي بالأزمة الإقتصادية العالمية من جهة أخرى، مما تسبب في تنامي الحراك الإحتجاجي من طرف المنظمات المهنية والنقابية كالإتحاد العام التونسي للشغل، الإتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، نجد أن الحكومة أعطت الصبغة الصامتة لهذا الموضوع منذ بداية المفاوضات الفعلية في سنة 2016 بالرغم من أهمية القرارات المصيرية المترتبة عنه وحاولت المرور للجولة الرابعة التي بدأت بداية هذا الأسبوع في ظل تعتيم إعلامي مقصود لولا الضجة التي قامت بها بعض النخب من خلال التنديد بهذه المفاوضات وكذلك الإعلان المشترك من قبل 41 منظمة وجمعية الداعي لإيقاف هذه المفاوضات للأخطار التي تحملها لتونس وعدم تكافئ موازين القوى.
المفاوضات الجارية لا تعني أننا مازلنا بعيدين عن الإتفاق بل قطعنا مرحلة لا بأس بها من خريطة طريق تم رسمها ترتكز على تمرير القوانين اللازمة لهذه الإتفاقية بكل صمت وتوافق ضمني بين السلطة التنفيذية والتشريعية وبالرغم من أنها تمثل ضربا لميزانية الدولة ومنظومات الإنتاج دون وضوح للمقابل الإقتصادي لهذه التنازلات.
سعت الحكومة إلى توفير كل الضمانات القانونية للمستثمر الأجنبي في تونس والشركات العالمية على حساب المستثمر الوطني والصناعي والفلاح ومسدي الخدمات من خلال قوانين صادق عليها مجلس نواب الشعب تؤمن للمستثمر الأوروبي النفاذ إلى السوق التونسية دون حواجز جمركية وغير جمركية إعتبرتها الحكومة مكبلات للإستثمار تعمل على القضاء عليها في مشروع القانون الأفقي للإستثمار وتحسين مناخ الأعمال التي تمت المصادقة عليه مؤخرا من قبل مجلس نواب الشعب والذي يأتي لاستكمال ترسانة القوانين التي تشكل الإطار القانوني لمشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق والتي تضم قانون المنافسة وقانون الإستثمار وقانون المؤسسات المالية والبنوك وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وقانون السلامة الصحية للمواد الغذائية وأغذية الحيوانات وقانون البنك المركزي، ترسانة حولت الإقتصاد الوطني إلى إقتصاد مفتوح على كل السيناريوهات دون وجود ضمانات.
أكثر سمة بارزة لهذه القوانين التي تبين أنها مولودة من رحم مفاوضات الإتفاق إعتمادها على مصطلحات كمكبلات الإستثمار واستعمال مصطلح المعاملة العادلة والقانون الأفقي للإستثمار وكلها مصطلحات تنتمي لثوابت الإتفاق العام لتجارة الخدمات للمنظمة العالمية للتجارة الذي يقوم على تحرير المبادلات التجارية في كل الخدمات ذات الصلة بقطاعات الفلاحة والصناعة والخدمات وتحرير الإستثمار، والتي تستند لمبادئه وقواعده إتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا”.
التعامل السياسي مطلوب قبل الإقتصادي
أي إتفاق بين طرفين مهما كان مجاله سواء إجتماعي إقتصادي فلا بد له من وجود تعامل سياسي واضح من قبل الطرفين وفي حالتنا نحن نجد أن الإتحاد الأوروبي واضح التمشي السياسي لبعثته التفاوضية حيث تستند هذه البعثة على الأطر العامة لسياسة الإتحاد الأوروبي في إتفاقيات التبادل الحر وحسن الجوار مع بلدان البحر الأبيض المتوسط المنصوص عليها في لائحة التفويض التي يستند إليها المفاوض الأوروبي بتصميم من البرلمان الأوروبي.
لكن عكس الجانب الأوروبي الذي يفاوض بتفويض من القاعدة نحو القمة فإنّ الجانب التونسي يعتمد العكس تماما بالتفاوض من القمة وفرضه على القاعدة ومنطلقاته السياسية غير واضحة على عدة أصعدة بل إكتفى بالإنكباب على دراسة الجوانب الفنية للإتفاق ولكن دون تحضير الساحة السياسية الداخلية وخاصة ممثلين القطاعات المعنية بدرجة أولى كالفلاحة والخدمات والمنظمات المهنية الأخرى، وهو ما ينبئ بمواجهة مع هذه الأطراف سوف تشتد كلما تواصلت المفاوضات.
من جانب آخر، أهم عنصر تم التغافل عنه بعد الثورة هو عدم وجود تقييم سياسي لإتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي لسنة 1995 فهذا الإتفاق ومارافقه هو الذي وضع عديد المتابعين في خانة المشككين في الإتفاق الجديد حتى لو كان يحمل فرص إيجابية للإقتصاد التونسي فلا بد أن لا ننسى أن خلال هذا الإتفاق لم يلتزم الإتحاد الأوروبي بكل إلتزاماته بخصوص تمويل تأهيل الإقتصاد التونسي وخاصة حجم تدفق الإستثمارات الأجنبية المباشرة من الإتحاد نحو تونس والتي مثلت خيبة أمل كبيرة لتونس وهي من أهم أسباب الأزمة الإقتصادية التي عاشتها تونس سنوات الألفية الثانية وهذه النقاط لم يتم التطرق لها في قمة “دوفيل” التي حضرها رئيس الدولة بصفته رئيسا للحكومة في سنة 2011 إبان الثورة وبعد ذلك توالت تبادل الزيارات بين السياسيين التونسيين والأوروبيين ولكن دون وجود أي إشارة لتلافي نقائص الإتفاق.
لا يمكن التغافل عن الأخطار الممكنة
لا شك أن الإتفاق الذي تتفاوض عليه الحكومة مع الإتحاد الأوروبي له إيجابيات عديدة للجانب التونسي كما أن الحكومة بكل مكوناتها ترى فيه مصلحة للشعب التونسي وهنا يجب الإبتعاد عن الخطابات الناعتة للحكومة باللاوطنية بل البحث عن موقف موحد يدعم المفاوض التونسي وهذا لا يكون إلاّ بعدم التغافل عن الأخطار الممكنة ووضعها في طاولة الحوار بين المجموعة الوطنية لكي لاتكون هذه الإتفاقية سببا في هزات وإنهيارات إقتصادية مستقبلية لتونس كما حصد بن علي سياسة البنك الدولي التي تم إعتمادها من سنة 1986 وإتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي سنة 1995 التي إنتهت بهروبه وفشل المقاربة الإجتماعية فشلا ذريعا.
إن التحرير الكامل للإقتصاد التونسي أمام السوق الأوروبية دون تأهيل الإقتصاد التونسي سينجر عنه تدمير باقي مقومات الإقتصاد الوطني وخاصة منظومات الإنتاج التي هي بطبيعتها تضررت من اتفاق 1995، كما أن أكثر قطاع مهدد هو القطاع الفلاحي بإعتبار المنتوجات الفلاحية الأوروبية التي تتمتع بدعم ضخم من الإتحاد الأوروبي في إطار السياسة الفلاحية الأوروبية المشتركة بما يعطي قدرات تنافسية ضخمة لمنتوجاتها تجاه المنتوجات الفلاحية التونسية المهددة باتفاقية “الأليكا”.
كما أن الإتفاق سوف يساهم في إضعاف مؤسسات الدولة ودورها في إعادة توزيع الثروة عبر سياسة الدعم المباشر وغير المباشر، ومن خلال سياساتها الاجتماعية، وسوف يجبرها على التخلي عن دعم منظومات الإنتاج في جميع المجالات عبر توفير الأطر القانونية للمنافسة والتمويل.
مع الإشارة أنه لا بد في أي إتفاق التطرق لحرية التنقل للأفراد التونسيين سواءا لحرية العمل أو الدراسة داخل الإتحاد الأوروبي فلا معنى لتحرير كامل وإقصاء الجوانب التي لاترضي المجموعة الأوروبية، كذلك مبدأ الحصص المعتمد في صادرات تونس الفلاحية كالتمور والقوارص وزيت الزيتون التي مثلت عائقا كبيرا في السنوات السابقة للصادرات التونسية فالإستمرار في نفس سياسة الحصص لا معنى له في ضل إتفاق جديد.
ختاما لايوجد أي إتفاق مهما كان نوعه يحمل الإيجابيات فقط ولكن الإتفاق الجيد هو الإتفاق المتوازن و الذي يكون مربحا للطرفين .
شارك رأيك