الديمقراطية مطلب قديم متجذر في التاريخ التونسي الحديث لكنها تحولت بعد ثورة 2011 إلى واجهة لممارسة كل ضروب الفوضى والتحيل على الناس، وغرقت البلاد في أزمات حادة وفقدت الدولة هيبتها ووجد الفوضويون الفرصة مواتية لعرقلة عمل المؤسسات والإفلات من العقاب.
.بقلم مصطفى عطية *
قرأت بشغف كبير يوميات الكاتب التونسي الكبير، المقيم بفرنسا، ألبار ممي، ” تونس : السنة الأولى “، وكان قد مكنني من شرف ترجمة ونشر رائعته العالمية “صورة المستعمر ، صورة المستعمر (بفتح الميم )”، وٱستوقفني حديثه عن بورقيبة وأفكاره ومقارباته وخاصة في ما يتعلق بتبنيه للقيم الحداثية والديمقراطية، وقد وجدت في ما أورده الكاتب فرصة لمقارنته بما يقال ويروج ويحدث اليوم وخاصة في ما يتعلق بالديمقراطية، التي دأب المجاهد الأكبر على تناولها بالتحليل في خطبه والتأكيد على أنها من صميم إهتمامات النخب التونسية طيلة أكثر من ثلاثة أرباع القرن، أي منذ إضطرام لهيب حركة النضال الوطني ضد الإستعمار في النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي.
بورقيبة كان يعتقد أن الشعب التونسي لم يبلغ مرحلة النضج الديمقراطي
فقد كتب، خلال تلك الفترة العديد من المقالات في الشأن الديمقراطي، وٱقتفى أثره الكثير من رفاق دربه أمثال الهادي نويرة والباهي الأدغم، ثم أحمد التليلي وأحمد بن صالح والحبيب بولعراس ومحمد مزالي وغيرهم، كل حسب مرجعياته الفكرية وقناعاته وقراءاته للواقع التونسي.
وكان المرحوم محمد مزالي أول من دون مقاربته ونشرها في كتاب بعنوان “الديمقراطية” هو باكورة إنتاج سلسلة “كتاب البعث” التي أسسها ومولها وأدارها الأديب الراحل أبو القاسم محمد كرو.
بقي أن لا أحد من كل هؤلاء وغيرهم، بٱستثناء النقابي أحمد التليلي وبعده بكثير الإعلامي البشير بن يحمد والمفكر الحبيب بولعراس، قد طالب، في ذاك الوقت، بتطبيق الديمقراطية على الطريقة الغربية وتنزيلها تنزيلا على الواقع التونسي دون مراعاة لخصوصياته، فبورقيبة كان يعتقد إعتقادا جازما أن الشعب التونسي لم يبلغ مرحلة النضج التي تؤهله لٱستيعاب قيم الديمقراطية، وتفرغ للعمل على توفير الظروف الموضوعية لٱنبعاثها ونموها، ومنها بالخصوص التحديث الإجتماعي والتنوير الفكري والديني، واتبع الهادي نويرة خطى بورقيبة وصدح بقولته الشهيرة في مؤتمر برشلونة : “لا معنى للديمقراطية إذا تكتل الذين لا يعلمون ضد ااذين يعلمون”.
أما محمد مزالي فقد حاول إتخاذ منزلة بين المنزلتين والتبشير بديمقراطية متدرجة لكنه إصطدم بعدة عراقيل يطول شرحها وتختلف أسبابها، وكانت إنتخابات 1981 ضربة موجعة لمحاولته التي دنستها المهازل والفضائح.
يرى القارىء أننا غفلنا عن ذكر “ديمقراطيي” مؤتمر المنستير للحزب الإشتراكي الدستوري في مطلع سبعينات القرن الماضي، وفي الحقيقة تعمدنا ذلك لأننا نعتقد أن نظرتهم للديمقراطية كانت محدودة جدا، ومطلبهم الأساسي لم يكن سوى إعتمادها جزئيا في صلب الحزب الإشتراكي الدستوري فقط، ثم هي مطالب ذات خلفية جهوية غير معلنة، جسمها الصراع المضطرم بين البلدية (أحمد المستيري، حسيب بن عمار، راضية الحداد، عزوز الأصرم، الحبيب بولعراس …) والسواحلية ( محمد الصياح، الطاهر بلخوجة، إدريس قيقة، محمد مصمودي، محمد مزالي، الهادي خفشة ، عبد الله فرحات …).
تحولت الحرية إلى انفلات والديمقراطية وتحيل على الناس
أردت سرد هذه الوقائع للتأكيد على أن الديمقراطية كفكر وكمطلب شعبي ليست وليدة اليوم ولم يأت بها حراك الرابع عشر من جانفي 2011 وإنما هي متجذرة بعمق في الفكر التونسي الحديث والمعاصر لكن الظروف لم تكن متوفرة لوضع آلياتها وتطبيق بنودها والإلتزام بقيمها … وهي الوضعية التي مازالت سائدة إلى اليوم وتعرقل المسار الديمقراطي الناشئ في بلادنا، حيث تحولت الحرية إلى انفلات، والديمقراطية إلى واجهة لممارسة كل ضروب الفوضى والتحيل على الناس، وغرقت البلاد في أزمات حادة وفقدت الدولة هيبتها ووجد الفوضويون الفرصة مواتية لعرقلة عمل المؤسسات، وتصاعدت وتيرة الإضرابات العشوائية التي عطلت مصالح الناس وأخذت المطلبية نسقا تصعيديا خطيرا، حتى صح القول : “كم بٱسمك أيتها الديمقراطية تقترف الآثام”!
* صحفي وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك