مساهمة التونسيين من الحجاج والمعتمرين في المداخيل الجملية للسياحة الدينية للمملكة العربية السعودية لا تتجاوز الثلاثة في المائة. لكنها تقارب عُشر ميزانيّة الدّولة التّونسيّة تقْريبًا وهي تعاني من صعوبات مالية ضخمة. فلوْ فلماذا لا تخصص هذه الأموال لتمويل القطاعات ذات الأولويّة في بلادنا؟
بقلَم أسعد جمعة *
ممّا أورَدتْه وسائل الإعلام في المدّ الأخيرة عن مصادر مطّلعة بوزارة الشّؤون الدّينية التّونسيّة أنّ ما لا يقلّ عن مائتي ألف ملفّ ترشّح لأداء مناسك الحجّ بالنّسبة لسنة 2019 قد تمّ إيداعها لدى مصالح الوزارة المذكورة.
ومفَاد هذا الخبَر أنّ ما لا يقلّ عن المائتي ألف تونسيّ مُستعِدّون لدفْع ثلاثة عشرة ألف دينار للتّكفير عن ذُنوبهم في أرْض الحِجاز، علْمًا بأنّ المَبلغ الإجمالي المٌفْتَرض رصده لِغرَض التّوْبة عمّا اقْتَرَفه مواطِنونا من الآثام يناهز الألفيْ مليار وستّ مائة مليون.
يدفع التونسيون للحج والعمرة سنويا ميزانية تناهز 3400 مليون دينار
وفيما يخصّ العنوان الثّاني من السّياحة الدّينيّة، أي العمرة، فإنّها تكلّف المجموعة الوطنيّة من العُمْلة الصّعْبة ما يناهز الخمسة أضعاف (4,76 مرّات تدقيقًا)، كلفة الحجّ التي يتحمّل التّونسيّون عبْأها، فضْلا عن كون نسق تنامي عدد المعْتمرين تضاعفت نسبته ما يناهز الثّلاث مرّات مقارنة بنسبة نموّ عدد الحجيج.
أمّا من حيث تنامي نسبة المُعْتمرين، فإنّ عدد المُعْتمرين طيلة موسم 2016 قد استقرّ في حدود 60 ألف معتمر من تونس، فيما أدرك 83 ألف معتمر بالنّسبة لسنة 2017، مع أنباء عن بلوغ رقم 90 ألف معْتمر مع نهاية موسم 2018.
فإذا ما علمنا أنّ تكلفة العمرة الواحدة تتراوح بين 1900 د و5000 د، من جهة، وأنّ المنحة السّياحيّة الٌرَخَّص فيها بالنّسبة للمسافر الواحد لا تقلّ عن 6000 د، لانتهيْنا إلى كلْفة الإجماليّة للعمْرة في السّنة الواحدة تفوق 800 مليون دينارا.
صفْوَة القوْل إذًا أنّ الميزانيّة الإجماليّة المُفْتَرضة للسّياحة الدّينيّة في بلادنا تناهز 3400 مليون دينار، أي عُشر ميزانيّة الدّولة التّونسيّة تقْريبًا.
فلوْ خُصّصت هذه الأموال لتمويل القطاعات ذات الأولويّة في بلادنا، وهي كما لا يخفى على أحد تمرّ بأزْمة غير مسبوقة، لتسنّى للدّولة التقْليص من حدّة أزمة السّكن، أو لتمكّنت من تعزيز بنية الصّحّة العموميّة التّحْتيّة، أو لتسنّى لها بعْث مؤسّسات تعليم عال ذات نسبة تشغيليّة عالية، أو لفعّلت تدخّلها الإيجابيّ في مجال تشغيل المُعَطّلين عن العمل. ذلك أنّ المبلغ المَذْكور كفيل ببناء أكثر من ألْفي مسْكن موجّهة للطّبقة الوسطى، أو بناء وتجهيز ستّة عشرة مستشفى جهويًّا من صنف “ب”، أو إقامة مائة وثلاثين كلّيّة ذات إختصاصات علميّة وتكنولوجيّة مُجهَّزة، وخلق ما لا يقلّ عن الثّلاثين ألف موطن شغل…!
علْمًا بأنّ هذه المبالغ الماليّة – التي قد تبدو ضخْمة في محيطنا التّونسيّ – إلاّ أنّ حجمها في مملكة آل سعود لا يضاهي نسْبيًّا حجم القطرة في أكبر محيطات العالم مساحة. فالحجّاج والمُعْتَمِرون لئن كانوا يشكّلون الجانب الأكبر من العشرين مليون أجنبيّ الذين يزورون سنويًّا مملكة آل سعود من بني قينقاع، فإنّ مداخيل الممْلَكة من السّياحة الدّينيّة لا تزال بعيدة جدًّا عن عائداتها النّفطيّة.
وبلغة الأرقام، فقد حلّ بالحجاز حوالي 2.4 مليون لأداء الحجّ في سنة 2017، أي بزيادة ما تناهز النّصف مليون نسمة مقارنة بسنة 2016، كما زار الحجاز في سنة 2016 ما لا يقلّ عن 7.5 ملايين معْتمر، أي أنّ العائدات الإجماليّة لدولة آل سعود من السّياحة الدّينيّة التي لا تتعدّى 20 مليار دولار لا تزال بعيدة جدًّا عن عائداتها النّفطيّة التي فاقت 130 مليار دولار في سنة 2016.
ومع ذلك، فإنّ التّطوّر المطّرد لنسبة السّياحة الدّينيّة من مداخيل مملكة آل سعود ما فتئت تتطوّر. ذلك أنّ القائمين على الشّأن السّياحي في دولة آل سعود يتوقّعون إرتفاع عدد المعتمرين والحجّاج إلى 15 مليونا وخمسة ملايين على التّرتيب بحلول عام 2020، ويطْمحون إلى مضاعفة عدد المعْتمرين مجدّدًا ليصل إلى 30 مليونا بحلول عام 2030. بحيْث أنّ السّياحة الدّينيّة، كما يخطّط لها أصاحب القرار في دولة آل سعود، ستتصدَّر في المستقبل المنظور مصادر تمويل ميزانيّة دولتهم.
ولكنّ مساهمة مواطنينا في تمويل الخزانة العامّة السّعوديّة، على أهمّيتها بالنّسبة لميزانيّة دولتنا، لا ترتقي إلى بضع الكسور في مداخيل دولة آل سعود الماليّة. فلو افترضنا أنّ ما ينْفقه الحاج أو المعتمر التّونسيّ في إطار سياحته الدّينيّة يمثّل معدّل نفقات الحجيج والمعتمرين عمومًا، وهو أمْرٌ مسْتَبْعَد باعْتبار شحّة مواردنا الماليّة، فإنّ عائدات مملكة آل سعود الإجماليّة من السّياحة الدّينيّة تناهز المائة وعشرين ألف مليون دينارا، بحيث أنّ مساهمة التّونسيّين المٌفْتَرَضة، أي بالقياس إلى عدد الملفّات المودَعة بقصد التّرشّح لآداء مناسك الحجّ، في إعلاء كلمة الله في نجد والحجاز لا تكاد تربو عن الثلاث بالمائة من مجموع عائدات السّياحة الدّينيّة في أرض آل سعود.
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
صفوة القوْل إذًا أنّه لو ذُكِّر مواطِنون بقول الحقّ – عَزّ من قائل -: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ﴾ (البقرة، 115)، لوَظّفوا أموالهم للضّرب في هذه الأرض الطيّبة، وكسَبوا فضْلاً عن آخرتهم دنْياهم. هذا ما يقْتضيه منطق العقْل السّليم، أمّا على جهة النّظر الشّرْعيّة، فمقارَبَتنا المَقاصِديّة مؤصّلة أثرًا بقوله – تعالى- : ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾ (آل عمران، 97)، وشرْط الإسْتطاعة هاهنا قد خَرج بهذا الفَرْض من العيْن إلى الكفاية: إذا لبّاه القوْم المُوسَر سقَط عن المُعْسَر، وأيّ عُسْر أشدّ وطأة على المرْء ممّا نحْن فيه؟
وأيّ عمَل أعْظم أجْرًا من نجْدة المؤمن لأخيه المُعْسَر كما جاء في محْكم التّنزيل: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ﴾ (المائدة، 32)؟
والحمْد لله الذي لا يُحْمَد على مكْروه سِواه.
* جامعي و باحث.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك