في أول أيام رمضان الكريم ينتابك شعور أن تونس قادمة على جائحة طبيعية وأنت تشاهد تهافت المواطنين على الشراء والتبضع فرغم ما يصرح به الغالبية العظمى من إرتفاع تكلفة المعيشة إلا أنهم يشترون أضعاف ما يحتاجونه من إستهلاكهم العادي. هناك معطى هام يجب على المواطن التونسي الإنتباه إليه وهو ترشيد الإستهلاك خاصة في المواسم الإستهلاكية الكبرى الذي يتسبب في ارتفاع الأسعار.
بقلم فيروز الشاذلي
هذه اللهفة الزائدة عن اللزوم تدفع للتساؤل عن كيفية توفير المستهلكين للموارد المالية اللازمة لهذا الإنفاق غير العادي خاصة أن بعض المساحات التجارية أغلقت في الأيام الأولى من رمضان ورفوفها تكاد تكون فارغة من المنتوجات الغذائية وفق المقولة الشعبية “الكرش تاكل والفم يبكي”.
فبعد أن شهدت عدة منتوجات تراجع في الأسعار رجعت للصعود بفعل هذه اللهفة الزائدة والطلب الكبير في وقت قياسي ففي ظرف يوم واحد إرتفعت أسعار التمور لتصل إلى 13 دينار بعد أن كانت لا تتجاوز 10 دنانير للكلغ الواحد و أسعار الفراولة تضاعفت من 2 دينارات إلى 4 دنانير وكذلك أسعار الطماطم التي وصلت إلى 2700 مليم والفلفل إلى 2500 مليم، بالرغم من توفر المعروض هذه المواد كلها زادت في يوم واحد ويرجع ذلك إلى معطى هام يجب على المواطن التونسي الإنتباه إليه وهو اللّهفة الزائدة عن اللزوم وعدم ترشيد الإستهلاك خاصة في المواسم الإستهلاكية الكبرى.
صحيح أن الأسعار في تونس شهدت نسقا تصاعديا كبيرا نتيجة زيادات هيكلية في تركيبة تكلفة المنتوجات مردّها إرتفاع أسعار المحروقات والمواد الأولية المستوردة بحكم إنخفاض قيمة الدينار ولكن يبقى عامل آخر ساهم في عدم توازن الأسعار وهو المسار التصاعدي والعشوائي للإستهلاك رغم كل شيء، فرغم الموسم الفلاحي الجيّد هذه السنة بحكم حجم تساقط الأمطار الإستثنائي على البلاد التونسية مما ساهم في إرتفاع العرض بشكل كبير هذه الأيام إلاّ أن نسق إنخفاض الأسعار كان بصفة بطيئة نتيجة الإرتفاع الكبير للإستهلاك مع بداية رمضان بشكل غير عقلاني.
تضخّم مسالك التوزيع و السماسرة هم الرابح الأكبر
هذه اللهفة المفرطة من جانب طيف كبير من التونسيين تدفع الإستهلاك إلى إرتفاع أكثر من 30% من الفترات العادية حيث يقبل المواطن على الشراء بلا هوادة وفي الأخير تجد أكثر من رُبع المشتريات طريقها نحو سلة المهملات ورغم أن غالبية المواد متوفرة هذه السنة لكن هناك إقبال كثيف في الأيام الأولى من رمضان على تخزين المواد الغذائية الأساسية من قبل العائلات بصفة كبيرة وهو ماجعل عديد المغازات والمساحات التجارية الكبرى غير قادرة على إعادة التزود بسهولة بهذه المواد فقد وجدت صعوبة لوجستية في مواجهة هذا الكم الهائل من الطلب وهنا نذكر مواد مثل : الحليب، البيض، التمور والزيوت النباتية. فرغم المجهودات الكبرى التي قامت بها فرق المراقبة الإقتصادية لتحسين المعروض وزيادة نسق التزويد فقد شهد اليوم الأول من رمضان إقبال كبير وغير عادي من المواطنين على تخزين مادة الحليب والبيض بكميات كبيرة بالرغم من وفرتها والتطمينات بعدم إنقطاع تزويد السوق بهذه المواد.
هذه الفوضى في الإستهلاك إنجر عنها تضخم في مسالك التوزيع ونقاط البيع العشوائية الموازية البعيدة عن المراقبة الصحية والبيئية، وهذا التضخم لم يستفد منه المنتج والفلاح بحكم توفر المنتوجات بصورة كبيرة مما خفّض في سعر بيعها عند الإنتاج بصفة كبيرة ولكن المستفيد الحقيقي هم السماسرة والدخلاء على مسالك التوزيع الرسمية الذين يستغلون هذا التضخم في الإستهلاك الذي يحدث خلال هذه الفترة فيقوموا بشراء هذه المنتوجات بأسعار معقولة ومن ثم يتم إضافة هوامش ربح مضخّمة وتوزيعها على مختلف النقاط البيع العشوائية الظرفية والموازية التي تنتشر على كامل البلاد، وفي هذه الحالة لا يجد السماسرة أي تكلفة إضافية أو صعوبات بحكم عدم إضطرارهم لتخزين هذه المواد للمضاربة بها في السوق عبر ضخها بكميات ضئيلة ليرتفع ثمنها، ذلك أن الطلب في بداية شهر رمضان يتضاعف فيتضاعف سعر البيع بطبيعته وهنا يجد المواطن نفسه بسلوكه الإستهلاكي غير العقلاني يدعّم في هؤلاء السماسرة وعمليات رفع الأسعار الوهمية.
غياب ثقافة الإستهلاك
والمقصود بثقافة الإستهلاك هي تلك الجوانب الثقافية والإجتماعية المصاحبة للعملية الإستهلاكية التي تضفي عليها المعنى والدلالة تترجم في أفعال إنتروبولوجية شائعة بين المجتمع تعطي دلالة على تطور تفكيره ووعيه الإستهلاكي.
يوجد نمطان لثقافة الإستهلاك فهناك النمط العادي وهو الذي يتصل بالإنفاق على الحاجات الإنسانية الأساسية وهو يشتمل على كل مظاهر الإنفاق الدائم مثل الإنفاق على المسكن والأثاث والطعام والملبس وتعليم الأبناء والعلاج ووسائل الترويح المختلفة حيث تكون صفة التوازن بين هذه النفقات هي السمة البارزة للمجتمع الإستهلاكي الرشيد، وهنالك النمط غير العادي وهو يتصل بالإنفاق الذي تقوم به الأسرة في مناسبات موسمية كالإحتفال بالأعياد الرسمية أو شهر رمضان وهنا يكون الترشيد الإستهلاكي بعدم المبالغة و إعطاء الأمور أكثر من حجمها.
هذه الثقافة الإستهلاكية تغيب بصفة كبيرة على المجتمع التونسي الذي يميل إلى الإستهلاك المظهري حيث الإسراف من أجل التظاهر وإرضاء النفس وشهواتها بلا حساب ولا عقلانية وفي عديد الأحيان لإبراز المكانة الإجتماعية، أي أنه سلوك رمزي في اللاوعي الجماعي للمجتمع.
هذا الأسلوب المظهري في الإستهلاك يؤدي في معظم الأحيان إلى مشكلات إقتصادية يعاني منها المجتمع كالتداين تتجاوز في تأثيراتها الأسر وتنعكس بصورة كبيرة على إقتصاديات الدول، ولذلك فإنه من الضروري الإلتفات إلى السلبيات التي تنجر عن الإستهلاك العشوائي والتقليد الأعمى غير المدروس. ومن الوسائل التي ساعدت في إنتشار ثقافة إستهلاكية غير سليمة هي الإنعكاسات السلبية لوسائل الإعلام وخاصة الإعلانات (الإشهار) التي أدت إلى الإحتفاء المبالغ فيه بأهمية الرموز والعلامات التجارية وخلق الأشياء الزائفة بين الحصول على سلعة واستهلاك أخرى.
شهر رمضان الكريم يجب ألا يكون مربوطا بالإستهلاك
إنّ الغاية السامية لهذا الشهر الفضيل ليست الحرص على الملذّات بل هو شهر الروحانيات بإمتياز وعدم الحرص على الدنيا وفيه دلالة على معاني السموّ والرفعة بالذات الإنسانية فلقد فرض علينا الله سبحانه وتعالى الصوم لما فيه من منافع روحية وجسدية فيقول الرسول صلى الله عليه وسلّم “صوموا تصحوا” فالصيام عادة غذائية صحية تساعد على التخلص من السموم الغذائية الناتجة عن عمليات الأيض في الجسم داخل الكبد والطحال، حيث يساعد الإمتناع عن الطعام لساعات طويلة على التخلص منها بسهولة وهذا يعطي للجهاز الهضمي فرصة للراحة لتجديد بعض الخلايا بشكل أسرع ويساعده على التخلص من الإضطرابات المرافقة لتناول الطعام بشكل مستمر.
تعديل المفهوم الإستهلاكي ضرورة قصوى
رغم تعدد السبل التي ساقها علماء الإجتماع والإقتصاد للتصدي لحمى الاستهلاك المفرط إلا أنها تكاد تتفق كلها على دور التوجيه والتثقيف الفكري لتعديل سلوكيات المجتمعات وضبط تصرفاتها نحو الإستهلاك المتهور والتفريق بين حاجاتنا الحقيقية من الوهمية. وذلك بتعديل الدافع والقناعة والذي يكون العامل الأهم في التغلب على اللهفة الإستهلاكية والتي تساهم في ترسيخ قناعة تامة بالترشيد في إحتياجاتنا الإستهلاكية وتفعيل دور سلم الأولويات بتقديم الأهم على المهم. كذلك التوعية الإعلامية ضرورة ملحة في مجتمع مازال لم يكتسب بعد الحصانة الذاتية في سلوكه الإستهلاكي وذلك بتنمية إعلام المستهلك وتوجيه وترشيد سلوكه الإستهلاكي.
هذا التغيير في المفهوم الإستهلاكي يجب ترجمته على أرض الواقع بضرورة الإبتعاد عن اللهفة وعن مسالك التوزيع الموازية خاصة فيما يتعلق ببعض المواد التي يكثر إستهلاكها في رمضان بحكم العادات الإستهلاكية في هذا الشهر الفضيل وذلك لتجنب الغش كالمواد الحساسة للتعفن والجراثيم البكتيريّة كالألبان ومشتقاتها، الهريسة، الفواكه الجافة، التن المجفف، الحلويات بأنواعها والخبز التقليدي.
شارك رأيك