اختيار يوسف الشاهد البقاء بالقصبة خيار من بين إختيارات عدّة، تابعة له، سابقة ولاحقة، كلّها خاطئة، إذ ليست هي بالضرورة في صالحه، بمعنى أنها ليست في صالح البلاد إعتمادا على قوله أن هذا يبقى همّه الأوحد.
بقلم فرحات عثمان *
قبل التعرض لهذه الإختيارات الناتجة عن البقاء على رأس الحكومة، لعّله من الضروري التذكير أن لا خيارات نهائية وقطعية في تعاطي السياسة عموما، وفي أيامنا هذه خصوصا؛ وبالأخص عندنا، حيث لا مبادىء تهم الساسة إلا مع يعتقدونه في خدمة مصالحهم الآنية. هذا يحتّم، دون أدنى شك، إمكانية تغيّر الخيارات في كل وقت وتغييرها حسب الظروف المتغيّرة والمعطيات المتجدّدة التي يفرضها الواقع بإكراهاته.
على أنّه من البديهي أيضا أن أيّ خيار، حتى وإن كان وليد ساعته ولحينه، مؤقّتا ولغاية معيّنة، لهو تكتيكي كما يُقال، لا بد له من تداعيات وآثار لعلها تكون إيجابية عند أخذ القرار، إلا أن من شأن نتائجها أو تداعياتها أن تجعلها وخيمة، سريعا أو بعد حين، لتنزّلها الذي لا محيد عنه في خانة منظومة متكاملة من القرارات تفرض نفسها بصفة خفيّة مع الأسباب والمسببات البيّنة، حتى وإن كانت غير معلومة ضرورة أو غير منتظرة. وتبيّن هذا يمثّل الحنكة الإستراتيجية التي تفرّق العسكري المحنك وفاقد الفن الإستراتيجي، حتّى وإن علت الرتبة العسكرية الرسمية للثاني.
الخيارات التي نعرض لها هنا بعجالة هي تلك التي ينبىء بها تصرّف رئيس الحكومة وعلاقاته بمن معه أو ضدّه داخل البلاد وخارجها؛ لذا حكمنا أنها خاطئة لصفتها المنافية لصالح الشعب التونسي كما نبيّنه. هذا مع الإشارة إلى أن تحليلنا لها، لئن يعتمد على الوضع الراهن كما يبدو للجميع وكما تفرضه حالة البلاد اليوم، يأخذ أيضا بالمتخيل السياسي واللاوعي الجماعي.
لذلك، ومع الإحالة للسبب المذكور أعلاه، لا نعتبر أن الخداع السياسي والمداهنة من شأنهما نفي صحّة ما نقول لضرورة الإنتباه إلى ما في الخيارات المذكورة من صفة سلبية لصيقة تحتّم بعض النتائج دون أخرى، إذ هي تصبح قوّة قاهرة من نوع المقاومة السلبية force d’inertie التي لها نسف ما يمكن أن يكون عند صاحب القرار من نوايا حسنة فتذهبها سدى. ذلك أنه من المستحيل الإعتقاد في التحكّم فيها داخل لعبة تكتيكية لها أن تتغير إلى لعبة إستراتيجية؛ ليس ذاك عندها إلا من باب تسلية النفس لا غير.
تجاهل الضرورة القصوى للإصلاح التشريعي
هل يُعقل الكلام عن ثورة ما دامت منظومة الديكتاتورية على حالها؟ وهل من المعقول أن يطبّق القضاء قوانين باطلة ألغاها الدستور؟ وهل نعقد إنتخابات لمجرد أن الدستور حدّد موعدها، بينما لا نحترم موعد إقامة المحكمة الدستورية التي هي أهم من الإنتخابات؟
لا شك أن رئيس الحكومة لا يجهل خطورة هذه الحال، بما أنه إلتقى، بخصوص الإصلاح التشريعي، باللجنة المكلفة به؛ غير أن هذا لا يفيد شيئا بدون الفعل؛ فالكل يعلم المقولة المشهورة في أن مهمّة اللجان المختصة قبر المواضيع المزعجة. وطبعا، ليس هذا التجاهل، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، إلا خدمة لإستراتيجية معيّنة، تلك التي ينتهجها الحزب الإسلامي الذي بدون مساندته يصعب بقاء رئيس الحكومة بمنصبه.
تجاهل حتمية إصلاح فهم الإسلام
نفس المضي في ركاب حزب النهضة ورغبته في عدم تغيير أي شيء حساس بالبلاد وراء تجاهل يوسف الشاهد لحتمية إصلاح الفهم المتزمت للإسلام الذي يستمسك به هذا الحزب المداهن في نظرته للإسلام. فلا ديمقراطية بالبلاد دون تغيير لفهمنا للعديد من المواضيع الحساسة المسكوت عنها رغم أنها تمنع أي تغيير يكون فيه الخير العميم للبلاد.
من هذه المواضيع مثلا المساواة في الإرث وإبطال تجريم المثلية وإقرار حريات الخمر والكحول كاملة، تجارة وشربا، عدا كل ما نراه في رمضان هذه السنة مرة أخرى من جرائم السلطة في حق الناس ممن ليس ذنبه إلا تطبيق مقتضيات الدستور، كحقه في الإفطار العلني والتعلق بكامل حرياته الفردية. فكيف نريد لتونس أن تكون دولة القانون وحاميها حراميها؟
عدم إبطال النصوص الترتيبية غير القانونية
مسؤولية الدولة كأول من يمنع قيام دولة القانون واضحة وضوح الشمس في ربيعة النهار بخصوص المناشير غير القانونية التي تمنع تطبيق القانون؛ إنها شبه قوانين مخزية تعتمدها الدولة بدون حياء لرفض الإعتراف بحقوق المواطنين. ورغم أنه وقع جرد هذه النصوص الترتيبية بصفة مدققة، ثم الإهابة منّا برئيس الحكومة لإلغائها فورا، كان كلامنا في النافخات زمرا.
عدم إتخاذ قرارات تعطّل التصرفات المخزية
وقل الشيء نفسه بخصوص دعوتنا له لاتخاذ ما تسمح له صلاحياته من قرارات من شأنها منع النصوص المخزية والتصرفات الرعناء لبعض السلط، مثل منع الفحص الشرجي أو أمر الشرط بعدم إيقاف الناس لشرب الكحول أو تدخين الزطلة أو التعليمات للنيابة العمومية لرفض التتبعات في كل ما يخص هذه القضايا.وها هو العالم اليوم يحتفل بيوم مناهضة رهاب أو كراهية المثلية، فلم تبقى بلادنا بمنأى عن العالم المتحضّر، بينما ثبت أن الإسلام لا يناهض بتاتا المثلية؟ هذا، وقد بيّنا أن لتونس أن تجعل من هذا اليوم العالمي يوما للإنتصار للإسلام في نفس الوقت بإحياء ذكرى ضحية لكراهة الإسلام والمثلية في شخص أحد أبناء بلاد المغرب، إحسان الجرفي؛ أليس هذا ممكنا؟
الإغترار بصلوحية الرأسمالية المتوحشة
إنه من المحزن أن يغتر رئيس الحكومة بدوام صلوحية النموذج الرأسمالي وهو القادر على تمثيل مستقبل تونس الشابة، الطامحة لغد أفضل على أيدي متطلعة لعالم جديد، مختلف عما عرفناه. فالرأسمالية اليوم هوجاء، متوحّشة، لا تعترف إلا بالهمجية لفرض كيانها وقد اهتز وأصبح في أزمة خانقة؛ لذا نراها تتحالف مع من في توحّشها، كالإسلام المتزمت الدعي، لإدامة هيمنتها على العالم.
طبعا، نحن لا نعني هنا النظام الليبيرالي الذي لا علاقة له بالليبيرالية الجديدة، هذه الرأسمالية الهمجية؛ فهو يناقضها تماما. ولئن أخذنا مثالا حيا من واقعنا، فالليبيرالية هي بالنسبة للرأسمالية المتوحشة كالإسلام الصوفي بالنسبة للإسلام السلفي.
إن الليبيرالية الصحيحة لا توقف همها على الربح والريع بكل الوسائل، بل تسهر على أن يكون ذلك في جو من الحرية الكاملة؛ وأهمها الحريات الفردية. أين نحن من هذه الليبيرالية التاريخية التي لا مفر للعودة إليها للتوصل لنبذ همجية رأس المال في بلادنا وتوحش حليفه الإسلام السياسي المفسد لدين الإسلام السمح المتسامح، دين الحقوق والحريات.
عدم عرض عضوية تونس للاتحاد الأوربي
إن رسوخ تواجد تونس داخل المنظومة الغربية وما يحتّمه من تبعية يفرض، عاجلا أو آجلا، إستخلاص العبرة المنطقية من ذلك، ألا وهي الجرأة على المطالبة بالإنضمام للإتحاد الأوروبي، إذ تونس بعد منتمية إليه لكن بصفة غير رسمية وبدون حقوق. فلا قدرة لتونس للخلاص من تبعيتها تلك، ولا للخروج من أزمتها الخانقة، التي العديد من أسبابها خارجية، إلا بدعم جدّي ممن لا مناص لها في التعامل معه، الإتحاد الأوربي. ولا يكون هذا الدعم جديا إلا إذا كان هيكليا بنيويا، أي بحصول تونس على صفة العضو التي تنقصها اليوم رغم إدعاء أوربا معاملتها كذلك بالسعي لمزيد من الإندماج، إلا أنه يبقى لصالحها أساسا طالما لم تلج تونس الاتحاد.
عدم المطالبة بحرية التنقل
لا شك أن أول خطوة جدّية نحو الإندماج التونسي في الإتحاد الأوروبي تكون برفع الحدود أمام حرية تنقل العباد؛ فلا غنى عن حرية التنقل بين أوربا وتونس، ولا مجال لأن تقتصر هذه الحرية، كما يطالب به الإتحاد الأوروبي، على الخدمات والتجارة متجاهلا العامل البشري الذي بدونه لا خدمات ولا تجارة البتة.
لذا، من المؤسف أن يمتنع يوسف الشاهد عن المطالبة بدمج حرية التنقل البشري في نطاق مشروع الألكا ليصبح ألككا Alecca. يكون ذلك بالمطالبة بالتوقف عن إستعمال التأشيرة الحالية وتحويلها إلى تأشيرة مرور تُسلّم للتونسين مجّانا، بدون شرط ولا قيد، ولمدة سنة على الأقل قابلة للتجديد آليا.
هذا من شأنه فتح الطريق للتنقل الحر بكل مسؤولية وتسوية الوضعية الحالية التي فيها الخرق الفاضح للسيادة التونسية وللقانون الدولي، المتمثّلة في رفع بصمات التونسيين من طرف سلط أجنبية على الأرض التونسية، بدون مقابل في حجم مثل هذا التنازل عن جانب حسّاس من السيادة الوطنية.
غض النظر عن ديبلوماسية لا خير فيها
هذا طبعا يحملنا للكلام على وضع الديبلوماسية التونسية الغافية في نعاس فظيع، غير عابئة بتغير الأحوال وضرورة نبذ اللغة الحطبية التي لا يزال العديد من ديبلوماسيينا يستعملونها، بل لعلّهم للأسف لا يعرفون غيرها، وعلى رأسهم وزيرهم.
بالطبع، هذا مردّه أساسا أن السياسة الخارجية من مشمولات رئيس الجمهورية الذي هو من رجال الماضي؛ إلا أن ذا لا يعني تمام غض النظر عن إنعدام الخير لتونس في تعاطي وزارة من الحكومة للسياسة الخارجية بما أن الوزير عضو في الحكومة، وليس له أن يكون مجرد رجع صدى لتصورات قصر قرطاج، خاصة وأن الدهر أكل عليها وشرب.فهلا أنقذت الحكومة ديبلوماسيتنا من نوم أهل الكهف الذي يستحليه الوزير المكلّف بها؟
- ديبلوماسي سابق وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك