الإحباط الشعبي العام وجنوح العديد من التونسيين إلى “تمجيد” النظام السابق رغم كل عيوبه وتجاوزاته وديكتاتوريته ومفاسده، أثار إهتمام الإعلام في بلدان الغرب وتحديدا في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. حيث ركز على المقارنة بين الماضي والحاضر ليخلص لما خلص إليه الكثير من التونسيين بأن بن علي كان أرحم بالتونسيين.
بقلم مصطفى عطية *
يتذكر التونسيون جيدا الحملات الإعلامية الغربية والفرنسية بالخصوص التي كانت تستهدف نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي دون هوادة مستندة إلى معلومات يزودها بها عملاء الطابور الخامس وبعضهم ركب سروج الحراك الشعبي في الرابع عشر من جانفي 2011 وٱرتقى إلى مناصب قيادية عليا في أجهزة الدولة. ومن بين الذين كانوا يوظفون هذه المعلومات لزعزعة أركان النظام التونس نذكر بالخصوص الكاتب الفرنسي نيكولا بو (Nicolas Beau)، الذي ناصب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي العداء، و ٱختص في مجال نقده وٱنتقاده، بالحق والباطل؟ لكن لا أحد كان يتصور أن هذا الخصم العنيد لبن علي سيصبح يوما مدافعا عنه ؟
قصة الإنهيار المتسارع في تونس بعد 2011
يعرف نيكولا بو جيدا، كما العديد من أمثاله، أن من شكر وذم كذب مرتين ولكنه وجد نفسه مرغما على تعديل الأوتار التي عزف عليها قبل الرابع عشر من جانفي 2011، يوم كان بن علي على سدة الحكم !!!
هذا التعديل جاء في سلسلة من المقالات المثيرة والمفاجئة نشرها الكاتب الفرنسي المشاكس على أعمدة صحف فرنسية وتحدث فيها عن الإنهيار المتسارع في تونس الذي أصبح يهدد البلاد في إستقرارها، فإن كان بن علي، حسب قوله، قد سمح للوبيات المحيطة به وبزوجته ليلى بن علي بتجاوز القيم والقوانين فإن ما يحدث الآن أشد وأقسى وأمر وأكثر تفاقما، فالرشوة عمت كافة القطاعات بدءا من سائق التاكسي الذي يستقبل في المطار الوافدين على تونس!
يؤكد هذا الكاتب الإستقصائي أن التاريخ يتقدم في تونس… ولكن البلاد تتأخر، أي تتحرك بالمقلوب! فالرشوة في عهد بن علي ساهمت كثيرا في إثارة الغضب الشعبي الذي أطاح به وبنظامه وأعلن على ما سماه الغرب “ثورة الياسمين” التي سرعان ما تحولت إلى خريف من الفوضى وشتاء من الإنفلات والتسيب، فمنذ مغادرة بن علي أو “هروبه” كما يصر البعض على وصف ذاك الخروج الذي ما زالت ظروفه غامضة ومعتما عليها، بلغ إهدار المال العام درجات لم يبلغها من قبل أبدا. فالرشوة “تمقرطت ” و”تمأسست” وعمت كل القطاعات دون إستثناء… ووضع “الڨياد” الجدد أيديهم على عمليات تهريب السلع، فكل مجموعة مصالح وكل شق في الحكم ينتفع من ذلك دون ردع من إدارة عاجزة وغياب شبه كلي للدولة ومؤسساتها.
تحدث الكاتب الفرنسي بكثير من التفاصيل عما يحدث في تونس، وهي تفاصيل يعرفها التونسيون ويعيشون أطوارها وتداعياتها يوميا ويتحدثون عنها في السر والعلن، وبعضها تتناوله وسائل الإعلام في برامجها، كالتجارة الموازية التي أصبحت تمثل أكثر من ستين بالمائة من الإقتصاد الوطني المنهار وإغراق السوق بالمواد المهربة والمغشوشة والمسمومة والمقلدة وظهور “أثرياء الثورة “على شاكلة “أثرياء الحرب” وٱنتشار الفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي والغش .
التونسيون يتحدثون اليوم عن “فضائل” العهد السابق الذي كانوا فيه محرومين من الحرية
يشير نيكولا بو في أحد مقالاته إلى أن الردع في عهد بن علي كان شديدا تجاه مرتكبي التجاوزات، بٱستثناء عائلته وأصهاره من المرأة الأولى والثانية ومراكز القوى التي تعمل في ركابهم، مذكرا بأن الرئيس الأسبق أطرد ما لا يقل عن ألفين من رجال الأمن الذين ثبتت ضدهم تهم رشوة. فهو الوحيد المسموح له بٱرتكاب ذلك، ويحرص دوما على التحرك في هذا الإتجاه بطريقة دقيقة جدا ولولبية فيها الكثير من الإلتفاف و لا تستثني الإيهام بضرورة المحافظة على المصلحة الوطنية !!!
يتحدث الكثير من التونسيين، وهم يواجهون يوميا مصاعب الحياة وما تداعى من فوضى وٱنفلات وٱنتشار للجريمة، عن “فضائل” العهد السابق الذي كان فيه المواطن المحروم من الحرية والديمقراطية، يستطيع ملأ قفته بضروريات عيشه بأقل ما يمكن من الكلفة المالية بالمقارنه مع اليوم، وينعم بالأمن في الطريق العام وبمقر عمله أو سكناه، فعمليات السطو والسرقة والبراكاجات والتعنيف لم تكن بالكثافة التي عليها الآن، والإرهاب كانوا يسمعون بحدوثه في البلدان المجاورة ولم تكن له موطأ قدم في تونس، أما عمليات التحيل والغش والتجارة الموازية فقد كانت محصورة في بعض العائلات واللوبيات المعروفة.
بن علي كان أرحم بالتونسيين ممن جاؤوا بعده
هكذا يتحدث التونسيون بمرارة يشوبها الغضب الشديد وقد إزداد عدد المحبطين بشكل متسارع حتى عمت خيبة الأمل كل فئات الشعب حتى تلك التي إندرجت في الحراك الشعبي وطالبت بالتغيير والقطع مع الماضي.
إن الإحباط الشعبي العام وجنوح العديد من التونسيين إلى “تمجيد” النظام السابق رغم كل عيوبه وتجاوزاته وديكتاتوريته ومفاسده، أثار إهتمام الإعلام في بلدان الغرب الأطلسي وخاصة منها تلك المحيطة بنا وتحديدا في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، فتحرك للبحث والإستقصاء وهو ما أنتج، أخيرا، سلسلة من المقالات والتحقيقات في الصحف والمجلات والإذاعات والفضائيات، ركزت على المقارنة بين الماضي والحاضر لتخلص لما خلص إليه الكثير من التونسيين بأن بن علي كان أرحم بالتونسيين.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك