في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية على الفايسبوك، تحدث الكاتب و و الناشط السياسي احمد فرحات حمودي عن تداعيات محاكمة قتلة صالح بن يوسف من منظور مختلف عن القراءة الأيديولوجية للتاريخ والتي أصبحت عاملاً جديداً للانقسام الوطني في تونس.
وكتب أحمد فرحات حمودي:
” أثارت محاكمة قتلة صالح بن يوسف جدلا واسعا وانقسم التونسيون مرة أخرى بين داعم للمحاكمة ومتحمس لها وبين رافض لها واعتبارها تذهب مباشرة لإدانة أحد أهم زعماء الحركة الوطنية وقائد دولة الاستقلال الزعيم الحبيب بورقيبة ليصار إلى استدعاء خلاف شق المجتمع التونسي قبل ستين عاما وذهب ضحيته المئات وأحدث شرخا ألقى بظلاله على دولة الاستقلال وكان مدخلا وتعلة وسببا في إرساء نمط الحكم الفردي الذي أطبق على البلاد وعطل مسيرتها نحو الاقلاع الحضاري والقيمي والاقتصادي رغم نجاحات بارزة وواضحة في مجالات التعليم والصحة وتحرير المرأة.
ولا يخفى على أحد على أن أغلب ردود الفعل حول هذه المحاكمة الحدث كانت سياسية وبعيدة على كينونة وماهية العدالة الانتقالية. لم نتخلص بعد من القراءة الأيديولوجية للتاريخ. قراءة تخلص إلى نتائج باتة ونهائية وواثقة والحال أن الوثوقية هي الضد تماما لمجمل العلوم الإنسانية والتاريخ أحدها. إن قراءة التاريخ عندي تقتضي التواضع والنسبية.
تعالو إذن نقرأ ونناقش ما حدث من منظور مختلف.
من المهم التذكير بداية أن الخلاف في أصله كان داخل نفس العائلة السياسية (الحزب الحر الدستوري الجديد). كان خلافا حول الزعامة وليس حول الخيارات والتوجهات وتذهب أغلب الدراسات حول الموضوع أن هذه الخلافات كانت لاحقة للخلاف الأول الذي كان سابقا لحكومة شنيق التي كان صالح بن يوسف وزيرا فيها والتي كانت تفاوض فرنسا حول الاستقلال. طفى الخلاف على السطح واشتد بين الزعيمين إثر عودتهما إلى تونس صائفة العام 1955 وفي إطار التحضير لمؤتمر صفاقس نهاية ذات السنة وخاض الزعيمان حملتهما الانتخابية وحشد المؤتمرين في كامل تراب الجمهورية وفي شعب الحزب وخلاياه في كل البلاد وكان أن قاطع بن يوسف المؤتمر بعد تهديده من الزعيم النقابي الراحل حبيب عاشور وهي رواية ينفيها أحمد بن صالح الأمين العام لاتحاد الشغل حينها وهي رواية مازالت محل جدل إلى اليوم. نحى الخلاف منحى الإقصاء المتبادل ومحاولة الاجتثاث وتحولت تونس إلى مجال صراع إقليمي ذهب ضحيته آلاف التونسيين وانتهى بمحاولات لاغتيال بورقيبة واغتيال الزعيم صالح بن يوسف في منفاه في ألمانيا وهو موضوع المحاكمة الحدث.
تحولت المحاكمة إلى محاكمة للزعيم بورقيبة ولفترة حكمه والحال أنها محاكمة لجريمة اغتيال ذهب ضحيتها أحد أهم زعماء الحركة الوطنية.
كانت مداخلة ابن صالح بن يوسف خلال المحاكمة نموذجية في مجال العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية عندما قال إنه يعترف بكل منجزات بورقيبة ودوره في تحرير البلاد وتحديثها وأنه لا يطلب محاكمة أحد بل يطلب اعترافا وطنيا واعتذارا من الدولة التي اغتالت أباه. كان فقط يطلب رد الاعتبار. وجدير بالتذكير أيضا أن الدولة التونسية اعترفت لبن يوسف ودوره في تحرير البلاد سنة 1988 عندما استقدمت رفاته وأعيد دفنه في روضة الشهداء بين زعماء الحركة الوطنية واستقبلت زوجته في القصر الجمهوري.
تمثل المحاكمة إذن تحدي رفعه التونسيون للمكاشفة والمصارحة دون ضغائن وأحقاد لطي هذه الصفحة من تاريخ تونس بصفة نهائية وإلى الأبد حتى لا تكون مطية للاستعمال السياسي السمج. هي إذن ليست محاكمة للزعيم بورقيبة ولفترة حكمه والتي تحتاج بدورها إلى قراءة موضوعية للوقوف على نجاحاتها وتثمينها والمضي قدما فيها وللوقوف أيضا على هناتها وتعثراتها لتلافيها ونحن نكتب حاضر ومستقبل الجمهورية. إن أكثر ما يهدد الوحدة الوطنية اليوم هو هذا التعصب الأعمى للتاريخ والأشخاص وأدلجته بالإكراه وإن أكثر ما نحتاجه اليوم هو مصالحة بين تاريخ الدولة الوطنية واعتبارها تجربة حكم فيها نقاط مضيئة ونقاط عتمة وبين فترة ما بعد الثورة واعتبارها أيضا تجربة فيها كذلك نقاط مضيئة ونقاط فشل. إن القول بأن 55 عاما بعد الاستقلال هي شر مطلق وان ما تلى ذلك أي فترة ما بعد الثورة هي خير مطلق أو القول بعكس ذلك هو مجانب للصواب عندي.
قصارى القول، لقد مثلت محاكمة قتلة صالح بن يوسف محطة جديدة لانقسام وطني ممجوج والحال أنها فرصة لو أحسنا التعامل معها لشق طريق جديد، طريق شاق ومحفوف بالمخاطر نعم وهو طريق يغضب المتاجرين بالتاريخ نعم ولكنه طريق يفتح افقا رحبا في تقديري للتونسيين وينزع عن أعيننا بقايا غشاوة أيديولوجية لطالما كانت غبشا يحف بمستقبل الجمهورية. “
شارك رأيك