من خلال “محاكمة” الزعيم الحبيب بورقيبة، أراد الإخوان المسلمون وأعوانهم تشويهه وتصويره في شكل قاتل ذلك لمعرفتهم أنّه أقوى معارض لهم، حتى وهو تحت الأرض، حيث أنه برمزيته وأفكاره الإصلاحية أصبح أكثر قدرة على معارضة الإسلاميين وفضح مخططاتهم من العديد من معارضيهم الحاليين.
بقلم نضال بالشريفة *
لا يخطر ببال أحد من الأشخاص العاديين ذوي الفطرة الإنسانية السليمة أن يحاكم شخص ميّت وأنّ يحاول العبث به وبحرمته وهو تحت القبر، ولكن في تونس أصبحنا تحت حكم أشخاص غير عاديين تخلوا عن فطرتهم الإنسانية السليمة، أشخاص ملئ الحقد والكراهية قلوبهم لدرجة أنهم يريدون محاكمة الحبيب بورقيبة، رجل توفي منذ قرابة العقدين وخرج من السلطة منذ أكثر من ثلاثة عقود.
الحديث هنا طبعا هو حول ما سمي بمحاكمة قتلة المرحوم صالح بن يوسف وهذا بعد طلب تقدمت به عائلته إلى هيئة الحقيقة والكرامة التّي إستجابت لطلبهم طبعا و قدمت إلى الدائرة القضائية المتخصصة بالمحكمة الإبتدائية بتونس “ملف” تسعى من خلاله إلى تشويه سمعة الزعيم الحبيب بورقيبة الذّي إعتبرته المسؤول الأول والعقل المدبّر لعملية الإغتيال، ولكن كما كان متوقّعا تم حفظ التهمة في حق بورقيبة بموجب الوفاة، إذا العملية واضحة هنا، رغبة مرضية في التشفي وتشويه سمعة الزعيم الخالد.
كيف جرت عملية الإغتيال موضوع القضية ؟
قبل الحديث عن أسباب الكره و الحقد الكامن في قلوب البعض على بورقيبة فلنتحدث قليلا عن الإطار الذّي جرت فيه عملية الإغتيال موضوع القضية، والذّي يمكن وصفه بإختصار بإنه صراع على السلطة لا غير فبورقيبة وبن يوسف كان كليهما دستوريين ينتميان للحزب الحر الدستوري الجديد، يحملان نفس الأفكار الحداثية الفرنكوفونية (كلهما درسا في باريس) إضافة لكونهما ناضلا معا زمن الإستعمار.
هذا الصراع وصل إلى قمته في بداية الخمسينات حيث داخل الطرفين في صراع كبير للسيطرة على الحزب وبالتالي على مسار المفاوضات مع السلطات الفرنسية ومن ثم السيطرة على الحكم بعد الإستقلال، تمتع بن يوسف بجزء هام من الشعب الدستورية والعائلة الملكية وشيوخ الزيتونة إضافة لعدد هام من الفلاقة في الجنوب، في حين تمتع بورقيبة أيضا بدعم عدد هام من الشعب الدستورية خاصة في الساحل وكذلك دعم عدد من كبار قادة الفلاقة مثل الأزهر الشرايطي وساسي الأسود ومصباح الجربوع، لكن ما قلب النزاع لصالح بورقيبة كان الدعم الكبير الذّي قدّمه له الإتحاد العام التونسي للشغل وهو ما مكنه من حسم الصّراع حول الحزب وذلك في مؤتمر صفاقس والذّي تم فيه أيضا طرد صالح بن يوسف نهائيا من الحزب.
هذا الأخير لم يقبل القرار و لم يقبل بنتائج المؤتمر وقرر الدخول في النزاع مع بورقيبة حيث أمر الفلاقة الموالين له بإستهداف أنصار بورقيبة، و سرعان ما توترت الأجواء و أصبحت البلاد تعيش في حالة من الحرب الأهلية، كان فيها النصر في النهاية للزعيم بورقيبة و أنصاره، وإثر هذا هرب بن يوسف إلى العاصمة الليبية طرابلس أين حاول تشكيل ما أسماه بجيش التحرير الوطني التونسي من خلال أنصاره في الجنوب والذّي دعاهم في أحد رسائله إلى الإستعداد للهجوم على الجنوب لكنّه فشل مرّة أخرى وتم سحق قواته التّي كانت مدعومة من قبل نظام جمال عبد الناصر.
بقي صالح بن يوسف طيلة فترة حياته في المنفى يحرض على إغتيال الزعيم بورقيبة كانت اخرها ربما مؤامرة 1958 حيث كانت تستعد تونس للدخول في معارك لإجلاء القوات الفرنسية من الجنوب التونسي تم التفطن لرسائل أرسلها صالح بن يوسف عبر المدعو صالح النجار يحرّض فيها أنصاره على قتل بورقيبة، و ربما لم تكن هذه المؤامرة الأخيرة، المهم أنّ بن يوسف في النهاية تم إغتياله في فرانكفورت من قبل ضباط في الجيش التونسي بعد أن دعوه للقاء في غرفة نزل كان يقيم فيه للتخطيط للإنقلاب على نظام بورقيبة.
لا أحد متأكد من حقيقة إعطاء بورقيبة أوامر القتل، فوزير الداخلية الأسبق الطاهر بلخوجة نفى علم بورقيبة بالتخطيط للعملية، ولكن حتى إن قام بورقيبة بإعطاء الأوامر للإغتيال فيمكن إعتبارها عملية دفاع شرعي عن النفس أمام إصرار بن يوسف على قتله.
كيف كانت ستكون تونس لو تمكن بن يوسف من السلطة بدل بورقيبة ؟
الان فلنتخيل قليلا كيف كانت ستكون تونس لو تمكن بن يوسف من السلطة بدل بورقيبة ؟ كما قلت كليهما كانا يحملان الأفكار الحداثية الفرنكوفونية، لكن تحالفات بن يوسف جعلته يتخلى عن هذه الأفكار و يتبنى أفكار تتمشى و طبيعة مسانديه.
نبدأ أولا بشيوخ الزيتونة، الذّين دعموا بن يوسف بعدما شعروا بخطر مشروع بورقيبة الإصلاحي عليهم، هذا الأخير الذّي لو لم يتخذ موقفا حازما منهم و من الطبيعة الظلامية لفكرهم لبقيت تونس إلى يوم تحت حكم قوانين و أفكار رجعية، حيث لما حدث تعصير التعليم، و لما تم توحيد القضاء وجعله قضاءا مدنيا، و لما تم تفعيل سياسة تحديد النسل ولبقيت المرأة مرتبة ما دون البشر التي كانت عليه قبل وصول بورقيبة للحكم. و خطاب بن يوسف في جامع الزيتونة أين قام بتكفير بورقيبة ووصفه بعدو العروبة والإسلام يؤكد أنّه سيسلك طريق التخلف والظلام.
أما الحليف الثاني لبن يوسف و الذّي يعطينا لمحة عن شكل النظام اليوسفي المفترض هو العائلة الملكية وكبار الإقطاعيين الذّين دعموا بن يوسف ضد بورقيبة، هؤلاء شعروا في المشروع الذّي يمثله بورقيبة ورفاقه القريبين من الفكر الجمهوري الشعبي خطرا عليهم وعلى مصالحهم، و بن يوسف لم يخفي أنّه مؤيد قوي للنظام الملكي.
الطرف الثالث الداعم لبن يوسف كان العروبيين المصريين، في هذا أيضا تناقض مع مشروع بورقيبة الذّي كان مشروعا وطنيا يقدّم حل مشاكل تونس على بقية العالم.
إذا بإختصار لو تمكن الأمر لبن يوسف، لكنّا اليوم نعيش في ظل دولة ملكية يتحكم فيها كبار الإقطاعيين ورجال الدين الذّين علينا أن نقدم لهم فروض الطاعة والولاء، النسبة الأمية ربما كانت ستكون في حدود ال40% أو 50% ولكانت المستشفيات في تونس عبارة على مجازر (مثلما أصبحت اليوم في زمن حكم الإخوان) لأنّ أموال ميزانية الدولة عوض إنفاقها على التعليم و الصحة كما فعل بورقيبة أنفقناها على شراء الأسلحة التّي دخلنا بها في حروب ضد ليبيا والجزائر (و ربما مالطا) قصد تحقيق الوحدة العربية (طبعا كلها خسرناها… تلك طبيعة العروبيين) و كذلك بسبب عجزنا عن توفير خدمات إجتماعية محترمة ل30 مليون تونسي. عدد سكان ما كنّا لنصل إليه لو إستعمنا لكلام بورقيبة الذّي أراد تفعيل سياسة تحديد النسل لكن رئيسة حكومة جلال الباي صالح بن يوسف لم يتمكن من تفعيلها بسبب رفض سماحة شيوخ الزيتونة رضي الله عنهم وأرضاهم.
بورقيبة سيهزم الإسلاميين في إنتخابات 2019 مثلما هزمهم في 2014
هذا السيناريو المتخيل يمثل الدولة الفضلى للإخوان، هذه تونس الحلم بالنسبة لهم، دولة متخلفة رجعية يتحكم فيها أثرياء ورجال دين، لكن هذا المشروع تم إجهاضه في 2014 وسيتم القضاء عليه نهائيا سنة 2019، إن شاء الله، وتعلمون السبب ؟
إنّه الزعيم الحبيب بورقيبة، هو من هزم الإخوان في إنتخابات الماضية وهو من سيهزمهم في الإنتخابات القادمة! هل كان الباجي ليفوز بالرئاسة لولا تقليده لبورقيبة في طريقة كلامه وحتى في مظهره وحركات جسده ؟ هذه الإستراتيجية منحته الرئاسة بعد أن دعمه أكثر من 1.7 مليون تونسي في الإنتخابات، طبعا للأسف لم يلتزم الباجي بسياسة الشخص الذّي قلده وإكتفى فقط بالمظهر، فتونس اليوم في أتعس حالتها والرئيس قايد السبسي أصبح عاجزا على الإهتمام بوضعية الشعب بعد أن كرّس كل جهده ووقته من أجل ضمان مستقبل إبنه، وقت لم يجد فيه حتى بضع دقائق للتنديد بمحاكمة فضيحة لمن كان له الفضل في الوصول لقصر قرطاج.
الإخوان وأعوانهم من خلال “محاكمة” الزعيم أرادوا تشويهه وتصويره في شكل قاتل ذلك لمعرفتهم أنّه أقوى معارض لهم، حتى وهو تحت الأرض، حيث بورقيبة برمزيته وأفكاره الإصلاحية أصبح أكثر قدرة على معارضة الإخوان وفضح مخططاتهم من العديد من معارضيهم الحاليين، لكن الإخوان وقع في الجب الذّي حفروه، حيث أصبحت شعبية بورقيبة أكثر مما كانت عليه، حيث إشتعل الفايسبوك واليوتوب بصورهم وأقواله و فيدواته وكتاب الالاف من المدونين نصوص تدافع عنه في وجه من أراد تشويهه، لقد تبيّن الجميع أنّ بورقيبة رمز لا يمكن قتله و كل مرّة يتعرّض فيها للإعتداء إلا وخرج منها أقوى، هذه رمزية تحاول الكثير من الأطراف إستغلالها من أجل إقناع الحداثيين والوطنيين بدعمهم من أجل الوصول للسلطة، لا إشكال في هذا المهم هو أن يكونوا هذه المرّة مقتنعين بأفكار بورقيبة ومشاريعه أكثر من إقتناعهم بمظهره وشكله.
* طالب حقوق بكلية العلوم القانونية بتونس.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك