بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في عام 2011 توقف مشروع “مدينة الثقافة” بالعاصمة لأنه يذكر الثورجيين الجدد بمقر “الغيستابو” الذي كان هتلر وزبانيته يعذبون فيه المعارضين للنازية، مثلما قال بعضهم. كيف بدأ هذا المشروع وماهي المراحل التي مر بها قبل أن يصبح إحدى أهم إنجازات تونس الحديثة ؟
بقلم مصطفي عطية *
” مدينة الثقافة”، مشروع أطلق عليه في العهد السابق “مشروع القرن”، وٱعتبره الثورجيون الذين ركبوا سروج الحراك الشعبي في الساعة الخامسة والعشرين، وعلى رأسهم وزير الثقافة الأسبق عزالدين باش شاوش صورة من “فساد بن علي” ويذكرهم بمقر : “الغيستابو” ( البوليس السري النازي) في عهد أدولف هتلر!
تم قبر هذا المشروع في زمن الترويكا بنسختيها، الأولى برئاسة حمادي الجبالي والثانية برئاسة علي لعريض، كما كل المشاريع الأخرى التي إعتبرها الرئيس المؤقت في تلك الفترة منصف المرزوقي رجسا من عمل “الديكتاتور المخلوع” ولم يبق إلا على إنجاز واحد من إنجازات بن علي وهو مرتب الثلاثين ألف دينار شهريا والذي يستمر مدى الحياة! وهكذا فهمنا منطق الرجل وعرفنا مفهومه للغنيمة!
المشروع الذي أزعج الثورجيين !
ولدت فكرة بعث مدينة للثقافة في رأس المنجي بوسنينة منذ تسلمه حقيبة الثقافة في حكومة حامد القروي مع مطلع تسعينات القرن الماضي فباح بها لبعض مستشاريه المقربين ثم رفعها إلى الرئيس زين العابدين بن علي الذي سارع بعقد مجلس وزاري مضيق لمناقشتها في التاسع والعشرين من شهر جانفي 1992، وأثناء النقاش عرض المنجي بوسنينة تصوره للمشروع مطالبا بالخصوص بأن يتم تشييده في قلب العاصمة كما هو معمول به في العديد من العواصم الكبيرة في العالم، ضاربا مثالا بقصر الأوبرا المقام في قلب باريس.
حاول بعض الوزراء والمستشارين الحاضرين طرح بدائل متعددة منها المكان الواقع وراء مصحة التوفيق على هضبة البلفيدير، لكن المنجي بوسنينة رفض كل المقترحات مقنعا رئيس الدولة بأن قيمة المشروع تكمن في ٱنتصابه في قلب العاصمة مشيرا إلى قصر المعارض كمكان مثالي فتدخل محمد علي بوليمان مذكرا بأن هذا المكان مخصص لممارسي الرياضة ولا يمكن حرمان مئات الشبان من ذلك، عندها أمر بن علي وزير الشباب والرياضة عبد الرحيم الزواري بإيجاد بديل لهؤلاء الشبان في مكان آخر يكون قريبا من حديقتي الرياضة (أ-ب) وحي الشباب، وهو ما وقع الإتفاق عليه نهائيا ليتم الإعلان رسميا عن المشروع الجديد.
إنهمك المنجي بوسنينة وإطارات وزارة الثقافة في الإعداد الأولي لهذا المشروع الذي أصبح من الأولويات المطلقة بالتعاون مع وزارة التجهيز التي يشرف عليها في تلك الفترة علي الشاوش، وهو من كبار المتحمسين للثقافة وأهلها، وقد أثمر هذا التعاون العملي الوثيق تسريعا وتفعيلا للإجراءات الأساسية، ولم يغادر المنجي بوسنينة الوزارة إلا وقد ترك ملفا مكتملا وجاهزا وتجسيما هندسيا للمشروع في مكتبه بالوزارة.
تواصل العمل بالجدية ذاتها وبمتابعة دقيقة من بن علي في عهد صالح البكاري وعبد الباقي الهرماسي وحدد تاريخ 2004 لتدشينه لكن بعض العراقيل التي طرأت في الأثناء وخاصة مع الشركة التشيكية التي تم التخلي عنها، أجل التدشين إلى سنة 2009.
الحراك الشعبي الذي أطاح بالنظام السابق وضع حدا للمشروع
تداول على الوزارة خلال السنوات الخمس التي فصلت بين الموعدين المشار إليهما آنفا وزيران هما العزيز بن عاشور ثم محمد رؤوف الباسطي الذي بذل مجهودات كبيرة لإصلاح الوضع لكن الحراك الشعبي الذي أطاح بالنظام السابق وضع حدا للمضي قدما في هذا المجال، حتى خرج عزالدين باش شاوش، عند تعيينه بالصدفة وزيرا للثقافة من رحم الفوضى والإنتهازية و”قلبان الفيستة” ليصدح بقولته الصادمة والتي تنم عن حقد دفين للثقافة: “مدينة الثقافة تذكرني بمقر الغيستابو” الذي كان هتلر وزبانيته يعذبون فيه المعارضين للنازية، وٱعتبرته محكمة نورمبارغ من مؤسسات جرائم الحرب!
أعجبت هذه القولة محمد المنصف المرزوقي وتبناها عند إرتقائه وقتيا لسدة الرئاسة وذلك بإصراره على تشويه المشروع وتجميده، حتى أنه بوأ عز الدين باش شاوش مكانة رفيعة في قلبه بتعيينه رئيسا لقائمة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية في الإنتخابات التشريعية الماضية في تونس 2، وكانت هذه المبادرة إيذانا بهزيمة نكراء للمرزوقي في الرئاسية وحزبه في التشريعية.
كان مشروع “مدينة الثقافة” قبل تشويهه والقدح فيه والتشكيك في فائدته والتعتيم عليه قد وصل إلى العديد من عواصم العالم وسارعت بعض الحكومات بتقديم مشاريع مماثلة لإنجازها في بلدانها، حتى وصل الأمر إلى حد تقديم طالب لأطروحة دكتوراه حول هذا المشروع التونسي الرائد في المدرسة القومية للهندسة المعمارية بالعاصمة المغربية الرباط وذلك في شهر جوان من سنة 1995.
لم يتم الإفراج عن المشروع وٱتخاذ قرار بٱستكمال إنجازه إلا بعد الإنتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 2014، إذ تحركت بعض مجموعات الضغط الثقافي وأرغمت حكومة الحبيب الصيد على الشروع في إعادة الإعتبار لمدينة الثقافة ووضع خطة عملية لإنقاذها، وهو ما تم فعلا.
* صحفي وكاتب.
مقالات سابقة في نفس السلسلة:
شارك رأيك